بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
إن النيابة العامة مصطلح يطلق في النظام القضائي المغربي على فئة من رجال القضاء، يوحدهم جميعا السلك القضائي ويشملهم النظام الأساسي لرجال القضاء، فهي من حيث تكوين أعضائها وطريقة تعيينهم وترقيتهم لا يختلفون في شيء عن قضاة الحكم، ومن حيث صلاحياتها فهي تجمع بين ما هو قضائي وما هو إداري.
وإذا كان الأصل في مهام النيابة العامة أنها تقوم بتمثيل المجتمع في الدعوى الجنائية، والدفاع عن حقه في حياة آمنة، وحماية جميع أفراده، فإن جل التشريعات المعاصرة ارتأت أنه من المناسب أن يمتد هذا التمثيل إلى مساهمتها في الدعوى المدنية التي تكتسي صبغة خاصة، وذلك لتحقيق مصلحة عامة أو حماية مراكز قانونية معينة جديرة بحماية المشرع، كما هو الشأن بالنسبة للدعاوى المتعلقة بالأسرة، خاصة وأن الأسرة تمثل الخلية الأولى في المجتمع صلاحه من صلاحها وفساده من فسادها، ذلك أن حماية المجتمع تقتضي حماية نواته الأساسية، وهي الأسرة.
وفي هذا السياق، جاءت مدونة الأسرة بمجموعة من المستجدات كان أهمها التحول الذي عرفته وضعية النيابة العامة، فبعدما كانت تتدخل في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية كطرف منظم طبقا للفصل التاسع من ق.م.م، أصبحت طرفا أصليا في جميع القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام مدونة الأسرة وفقا لما تنص عليه المادة الثالثة.
ولما كان مجالات قضاء الأسرة تشمل حسب الفصل الثاني من ظهير التنظيم القضائي للمملكة، قضايا الأحوال الشخصية والميراث وشؤون التوثيق والقاصرين وقضايا الحالة المدنية والكفالة، فإن تدخل النيابة العامة في قضايا الأسرة لا ينحصر في قضايا المدونة فحسب، بل يمتد ليشمل حماية نظام الحالة المدنية الذي يضبط الوقائع المدنية لأفراد الأسرة، والأرضية التي يقوم على أساسها تحديد هويتهم، خاصة وأن هذه المؤسسة تكتسي صبغة خاصة باعتبارها مظهرا من مظاهر الشخصية القانونية للفرد، ولتعلقها بالنظام العام للدولة.
وارتباطا بمؤسسة الأسرة، ولحماية أحد أركانها، وهم الأطفال الذين قد تزج بهم الظروف غير الطبيعية التي يمكن ازديادهم فيها في براثين الإهمال والتشرد، أناط المشرع بمقتضى ظهير 13 يونيو 2002 المتعلق بكفالة الأطفال المهملين للنيابة العامة مهمة حماية هؤلاء الأطفال وتوفير الظروف الملائمة لنموهم في وسط يضمن احتياجاتهم اليومية، حيث تستمر هذه الحماية إلى أن يصبح الطفل المهمل قادرا على تحمل أعباء الحياة.
ولعل أن المشرع يهدف من وراء إدخال النيابة العامة في القضايا المتعلقة بالأسرة، ضمان تطبيق القانون تحقيقا للمصلحة العامة، وتجنب أي إهمال في الدفاع بخصوص قضية لها مساس بالنظام العام، وتمتاز بخصوصية خاصة، فرغم أنها تهدف إلى حماية مصلحة خاصة، فإن آثارها غير مقتصرة على الأطراف.
دوافع اختيار الموضوع:
إن اختياري لموضوع دور النيابة العامة في قضايا الأسرة تحكمت فيه عوامل عدة، يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولا: جدية الموضوع وراهنيته النابعة من حداثة كل من مدونة الأسرة وظهير كفالة الأطفال المهملين وقانون الحالة المدنية.
ثانيا:حيوية الموضوع، خاصة بعد صدور مدونة الأسرة التي نصت في المادة الثالثة على أن النيابة العامة تعتبر طرفا أصليا في جميع القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام مدونة الأسرة، لذلك كان لا بد من التنقيب عن هذا الدور الجديد الذي خول للنيابة العامة.
ثالثا:قلة الكتابات التي تناولت الموضوع، من منطلق نظرة شمولية وعميقة للاختصاصات والصلاحيات القانونية التي أصبحت تتمتع بها النيابة العامة على مستوى حماية مؤسسة الأسرة، بعدما كان مرتعها الخصب هو المجال الزجري.
أهمية الموضوع:
إن هذا الموضوع لـه أهمية متميزة من الناحية النظرية والعلمية، فهو من الناحية النظرية يحاول إبراز مدى توفق المشرع المغربي حينما اعتمد على مؤسسة النيابة العامة لتساهم في الحفاظ على كيان الأسرة واستقرارها، وكذا إبراز مجالات تدخل النيابة العامة في مختلف القوانين المؤطرة لمجال الأسرة.
وهو من الناحية العلمية يمكن أن يكون خير معين لكل شخص يهتم بالقانون أو بقضايا الأسرة على وجه الخصوص، وتسهل الاطلاع على مختلف النصوص التي تحدد اختصاص النيابة العامة في الدعاوى الأسرية، خاصة وأن بعض النصوص تتصادم فيما بينها رغم أنها صدرت متزامنة وفي نفس التاريخ، فمدونة الأسرة منحت صفة الطرف الأصلي للنيابة العامة، بينما الفصل التاسع من ق م م ينص على أنها طرف منضم.
صعوبات البحث:
إن محاولة البحث في هذا الموضوع ليست سهلة، حيث يصطدم الباحث بمجموعة من العقبات تتجلى في غياب السبق على مستوى التراكم المعرفي للموضوع نظريا وتطبيقيا، فالكتابات التي عالجت الموضوع قليلة وهي على شكل مقالات متناثرة بين المجلات، ومن حيث التطبيق، فإن الممارسة التي قد تفرز عيوب الدور الموكول للنيابة العامة في قضايا الأسرة لا زالت في بدايتها، نظرا لكون جل القوانين المؤطرة لمجال الأسرة صدرت حديثا.
إشكالية البحث:
رغم أن المادة الثالثة من مدونة الأسرة تنص بشكل صريح على اعتبار النيابة العامة طرفا أصليا في القضايا التي تطبق فيها نصوص المدونة، فإنها تصطدم مع مقتضيات الفصل التاسع من ق م م، كما تم تعديله وتتميمه بموازاة مع صدور مدونة الأسرة، والذي ينص على أنه: "يجب أن تبلغ إلى النيابة العامة الدعاوى الآتية:
1. القضايا المتعلقة بالنظام العام والدولة والجماعات...
2. القضايا المتعلقة بالأسرة..." لأن القضايا التي تبلغ إلى النيابة العامة تتدخل فيها كطرف منضم طبقا لمقتضيات الفصل الثامن من ق م م.
ونفس الشيء بالنسبة لقضايا الحالة المدنية، حيث دأب الاجتهاد القضائي على اعتبار النيابة العامة فيها طرفا أصليا، فقد جاء في قرار للمجلس الأعلى: "إن النيابة العامة في قضايا الحالة المدنية طرف أصلي، لأن الحالة المدنية من النظام العام"، رغم أن المشرع لم ينص على ذلك بشكل صريح، مما فتح المجال لنقاشات فقهية واسعة حول دور النيابة العامة في هذا المجال.
والسؤال المطروح هو: كيف يمكن التوفيق بين مقتضيات المادة الثالثة من المدونة ومقتضيات الفصل 9 من ق م م؟ وما هي حقيقة طبيعة الدور الذي تؤديه النيابة العامة في قضايا الأسرة؟ وما هي مجالات تدخل النيابة العامة في كل من مدونة الأسرة وقانون كفالة الأطفال المهملين وقانون الحالة المدنية؟
منهج البحث:
إن مقاربتي لموضوع تدخل النيابة العامة في قضايا الأسرة لن تستقيم إلا بالاعتماد على منهج للدراسة يضمن الإجابة عن الإشكالية السابقة والإحاطة بكل جوانب الموضوع، ولقد وجدت أن المنهج التحليلي النقدي هو أنسب المناهج الذي يتيح لي إبراز مجالات تدخل النيابة العامة في قضايا الأسرة، وفضلا عن اعتمادي على المنهج التحليلي النقدي، فقد استعنت بمناهج أخرى.
خطة البحث:
لقد اخترت لمعالجة هذا الموضوع تقسيمه إلى مبحث تمهيدي وفصلين، وذلك على الشكل التالي:
فبالنسبة للمبحث التمهيدي خصصته للطبيعة القانونية لتدخل النيابة العامة في قضايا الأسرة، وقد تم تقسيمه إلى مطلبين، تناولت في الأول التفرقة بين التدخل الأصلي والانضمامي للنيابة العامة، وخصصت الثاني لتحديد ماهية دور النيابة العامة في قضايا الأسرة.
وفيما يخص الفصل الأول والمخصص لتدخل النيابة العامة في مدونة الأسرة، فقسمته إلى مبحثين، عالجت في الأول دور النيابة العامة في الزواج وعند انحلال ميثاقه، وقد تم تقسيمه إلى مطلبين، تناولت في الأول دور النيابة العامة في الزواج، وفي الثاني دور النيابة العامة أثناء انحلال ميثاق الزواج، في حين خصصت المبحث الثاني لتدخل النيابة العامة في قضايا الحضانة والمحجورين، حيث تطرقت في المطلب الأول إلى دور النيابة العامة في قضايا الحضانة، وعالجت في المطلب الثاني دور النيابة العامة في حماية المحجور.
أما فيما يتعلق بالفصل الثاني فقد تعرضت فيه لدور النيابة العامة في قانون الحالة المدنية وظهير كفالة الأطفال المهملين، وقد قسمته إلى مبحثين، خصصت الأول لدور النيابة العامة في قانون الحالة المدنية، والذي تناولت في المطلب الأول منه الاختصاصات القضائية للنيابة العامة في مجال الحالة المدنية، في حين تطرقت في المطلب الثاني إلى الاختصاصات غير القضائية للنيابة العامة في مجال الحالة المدنية، وتناولت في المبحث الثاني دور النيابة العامة في قانون كفالة الأطفال المهملين، وقسمته بدوره إلى مطلبين تعرضت في الأول لدور النيابة العامة في حماية الطفل المهمل، وعالجت في الثاني تدخل النيابة العامة في دعوى التصريح بالإهمال.
النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث:
وقد توصلت من خلال هذه الدراسة إلى النتائج التالية:
1. إن النيابة العامة طرف أصلي في جميع القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام مدونة الأسرة، ذلك أن المادة الثالثة من مدونة الأسرة نص خاص، بينما الفصل التاسع من ق م م، والذي ينص على أن النيابة العامة طرف منضم في القضايا المتعلقة بالأسرة، نص عام لأن القضايا المتعلقة بالأسرة تشمل حسب الفصل الثاني من ظهير التنظيم القضائي للمملكة القضايا التي تطبق فيها نصوص المدونة وقضايا الحالة المدنية وقضايا الكفالة...، والقاعدة أن النص الخاص يعطل ضمنيا النص العام في شأن ما جاء بتخصيصه، حيث يحد النص الخاص من مدى عموم النص العام فيقتطع بعض ما يندرج تحته ويجري عليه حكم قاعدة مغايرة.
2. إن المشرع أحسن صنعا حينما نص على أن النيابة العامة طرف أصلي في القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام مدونة الأسرة، لتساهم بشكل إيجابي في الحفاظ على كيان الأسرة واستقرارها. إذ أن من المنازعات الأسرية ما يمس مراكز قانونية آثارها غير مقتصرة على خصوم الدعوى، ومنها ما قد يمس مصالح جديرة بحماية خاصة من جانب المشرع، فالاستغناء عن سماع رأي النيابة العامة في هذه الأحوال يحرم القضاء من عون ضروري ومفيد، خصوصا وأن العمل أثبت أن القضايا التي تتدخل فيها النيابة العامة قلما يحيد الحكم فيها عن الصحة والحقيقة.
3. اضطلاع النيابة العامة بأدوار مهمة في جميع القضايا التي تطبق فيها بنود المدونة توازي اختصاصاتها في ممارسة الدعوى العمومية، سواء من حيث الكم أو من حيث الأهمية، فمن حيث الكم، فكلمة النيابة العامة وردت في خمسة وعشرين مادة من مواد مدونة الأسرة بعد ما كان هذا المصطلح غائبا عن مدونة الأحوال الشخصية، ومن حيث الأهمية، فأهمية هذا الدور الممنوح للنيابة العامة من طرف المشرع يتجلى فيما يمكن أن يحققه من فوائد لأفراد الأسرة، هذه الأخيرة أصبحت في حاجة ماسة لرقابة فعالة من جهاز قوي وعادل كجهاز النيابة العامة يساعد قضاء الحكم على لم شمل الأسرة ورأب الصدع بين أفرادها.
4. ومن ثم يتعين على النيابة العامة أن تكون أكثر إيجابية في دفاعها عن مبادئ مدونة الأسرة، من خلال حضورها في جميع الجلسات التي تطبق فيها نصوص مدونة الأسرة، بشكل ينم عن انخراطها الفعلي في تحقيق الأهداف الكبرى للمدونة، سواء من خلال اللجوء إلى القضاء كمدعية كلما دعت الضرورة لذلك، أو بتقديم مستنتجات مبنية على دراسة شاملة للوقائع المحيطة بالملف، ليكون رأيها عبارة عن فتوى ذات قيمة في نظر المحكمة، وبالتالي عونا للقضاء في السهر على حسن سير العدالة، ونصيرا مساعدا على توضيح القاعدة القانونية.
5. وقيام النيابة العامة بدورها الإيجابي كاملا يجب أن يكون تلقائيا ولا يمكن لها أن تتخذ موقفا سلبيا كلما تعلق الأمر بقضية تطبق فيها مدونة الأسرة، ولا يسعفها في ذلك كون المدونة لم ترتب جزاء على مخالفة هذا المقتضى أو ذاك، لأن الأمر يتعلق بمؤسسة أوكل إليها المشرع تنفيذ القانون وتفعيله وربط الصلة بين النص والتطبيق.
6. وفي مجال الحالة المدنية، فالمشرع مطالب بالتدخل كلما سمحت الفرصة بذلك لمنح صفة الطرف الأصلي للنيابة العامة في قضايا الحالة المدنية، حتى يضع حدا للجدل الفقهي الدائر حول هذه المسألة، ما دامت هذه القضايا من النظام العام، وما دام الاجتهاد القضائي المغربي يعتبرها كطرف أصلي، لأنها تتواجد في هذه القضايا بصفتها مدعية أو مدعى عليها، حيث جاء في قرار للمجلس الأعلى "إن دعوى الحالة المدنية توجه من النيابة العامة وعليها ولا توجه ضد ضابط الحالة المدنية".
7. على النيابة العامة أن تسهر على تعميم نظام الحالة المدنية وضبطه، من خلال تنصيب نفسها كمدعية لاستصدار التصاريح القضائية بالازدياد أو الوفاة والتي لم يسبق تقييدها في سجلات الحالة المدنية، وأن تلتمس إصلاح كل الأخطاء الجوهرية التي تتراءى لها لتكون سجلات الحالة المدنية مطابقة للواقع، والعمل علة مراقبة هذه السجلات مراقبة فعلية وصارمة، سواء قبل بدء العمل بها أو بعد حصرها، لأن النيابة العامة هي التي تتحمل مسؤولية صحة البيانات الواردة فيها، خاصة وأن هذه السجلات تعتبر كمرجع من طرف مؤسسات الدولة بغض النظر عن المصالح الشخصية للأفراد وكل تهاون من طرف مؤسسة النيابة العامة في مراقبة نظام الحالة المدنية يفقد هذا النظام مصداقيته القانونية، كما أن مراقبة السجلات من طرف النيابة العامة يحول دون التلاعب والاحتيال على القانون، ويضع حدا لكل التباس حول الهوية الكاملة لكل شخص، وعلى النيابة العامة أيضا أن تعمل على تضمين البيانات الهامشية التي تحال عليها من طرف ضباط الحالة المدنية، حتى يكون هناك تطابقا تاما بين السجل الموجود بالجماعة والسجل النظير الموجود بالمحكمة.إلا أن الملاحظ أن مراقبة السجلات بعد حصرها شبه منعدمة، إذ تكتفي غالبية النيابات بتحرير محاضر دون فحص تلك السجلات، مما يجعل بعض الضباط يتقاعسون في إرسال نظائر السجلات.
كما أن بعض النيابات لا تضمن البيانات الهامشية بنظائر السجلات الموجودة لديها، رغم توصلها من مكاتب الحالة المدنية بالإعلانات عنها، مما يجعل رسوم بعض الأشخاص لا تتطابق هنا وهناك.