قراءة نقدية لشكلية القانون 05/08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية
إعداد: بدارة لحسن
طالب باحث في سلك ماستر قانون المنازعات بالكلية المتعددة التخصصات الرشيدية
مقدمة:
أصبح اللجوء للوسائل البديلة لفض المنازعات في وقتنا الحالي أمرا يفرضه الواقع بسبب التحولات والتطورات في مختلف الميادين والأصعدة لتلبية متطلبات العصر، والتي لم يعد لجهاز القضاء التصدي له بشكل فعال نظرا لما يعرفه الأخير من أزمات مختلفة لا يمكن إنكارها منعجزه عن الفصل في النزاعات المرفوعة إليه في الآجال المعقولة، ناهيك عن تكدس الملفات وضعف الموارد البشرية وغيرها من الاكراهات.
ومع التطور المستمر في التجارة والخدمات، وما نتج عن ذلك من تعقيد في المعاملات وما تتطلبه من سرعة وفعالية في بت النزاعات ظهر ما يسمى بالقضاء البديل لمرونته وتعاونه إلى جانب القضاء الرسمي للدولة.
لقد كان نظام التحكيم والوساطة الاتفاقية من أهم هذه الوسائل التي يحق لأطراف الخصومة اللجوء إليها لما لها من دور في حماية الأطراف المتنازعة وشكلت في نفس الوقت عوامل جدب للاستثمار ومكانة فعالة لتحقيق وتثبيت العدالة وصيانة الحقوق.
ومن المؤكد أن المشرع المغربي نظم التحكيم منذ قانون المسطرة المدنية القديم في الباب الخامس عشر من الفصل 527 إلى الفصل 543، منه الذي يعود لسنة 1913، وبعد أن انخراط المغرب في المنتظم الدولي وما صاحبها من ازدهار التجارة الدولية خاصة بعد توقيع اتفاقية مراكش التي كانت وراء ميلاد " منظمة التجارة العالمية "جاء المشرع المغربي في إطار الإصلاح القضائي الذي يعرفه منذ سنة 1974 بالقانون رقم 05/08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية الذي جاء بمجموعة من المستجدات إلا أنه لا يزال يحمل في طياته جملة من النواقص سواء في الشكل أو الموضوع، مما دفعهأيضاإلى وضع مشروع قانون 17/95 من طرف وزارة العدل سيرا على التوجهات السامية لجلالة الملك في مجال الوسائل البديلة[1]، وفي دراستنا هاته ستقتصر قراءتنا النقدية للقانون 05/08 في وضعيته الهيكلية والشكلية فقط.
وانطلاقا من مما سبق سوف تكون خطة البحث على المنوال التالي:
المطلب الأول: قراءة نقدية لشكلية مقتضيات التحكيم
المطلب الثاني: قراءة نقدية لشكليةمقتضيات الوساطة الاتفاقية
المطلب الأول: قراءة نقدية لشكلية مقتضيات التحكيم
جاء القانون 05/08المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية بمجموعة من المستجدات على مستوى الشكل وكذا على مستوى الموضوع،حيث عرف تحولا عميقا على مستوى صياغة النصوص، وكذلك على مستوى توزيع المقتضيات،ففي الأول تم إعداد مشروع مدونة التحكيم كنص قانوني مستقل بناء على دراسة عميقة لواقع التحكيم في المغرب وللمعوقات القانونية والواقعية التي تعوق انتشاره والأخذ بمزاياه العديدة على نطاق أوسع مما تعرفه الظروف الراهنة.
فالمشروع الأول لمدونة التحكيم جاء لجعل قانون التحكيم مستقلا بناء على تعليمات ملكية سامية[2] وتم التراجع عنه ودمجه في قالب قانون المسطرة المدنية الحالي ربما لتجنب التضخم التشريعي إلا أنه رغم ذلك فتنظيمه بشكل مستقل أفضل مادام أنه قضاء بديل له مكانة في فض المنازعات فلا حاجة إذن لدمجه في القانون الاجرائي.
وجدير بالذكر في هذا الصدد أنه بالرجوع إلى مشروع قانون المسطرة المدنية لم يتم فيه إدراج لمؤسسة التحكيم والوساطة الاتفاقية، وهذا مؤشر ربما يدل على نية المشرع بتنظيمه بقانون خاص.
إن من خلال قراءتنا لهذا القانون نجد المشرع المغربي خص الباب الثامن منه للتحكيم والوساطة الاتفاقية ويتكون من أربعة فروع، حيث خص الفرع الأول للتحكيم الداخلي والفرع الثاني للتحكيم الدولي، بينما الفرع الثالث عالج فيه المشرع الوساطة الاتفاقية وأخيرا ترك الفرع الرابع لأحكام متفرقة.
والملاحظ في هذا التقسيم الذي اعتمده المشرع أنه حين خص للتحكيم الداخلي والدولي فرعا لكل واحدا منهم، رغم اعتبارهم يندرجوا ضمن وسيلة التحكيم قد يشوبه العيب، ويمكن القول أنه من الأفضل إدراجهم في فرع واحد ويتم تقسيمه إلى جزئيين الأول، سيتعلق بالتحكيم الداخلي والثاني للتحكيم الدولي، بدل تخصيص لكل واحد منهم فرع لأنه قد يفهم من ذلك التقسيم أن المشرع يقصد بأن الأمر يتعلق بثلاث وسائل بديلة لفض المنازعات والحال أن الأمر يتعلق بوسيلتين فقط هما التحكيم ثم الوساطة الاتفاقية، وهو ما تجاوزه مشروع قانون17/95، حيث قسمه إلى ثلاثة أقسام،
وقد خص الأول للتحكيم، والثاني للوساطة الاتفاقية، والثالث لأحكام مترفقة، ففي القسم الأول قسمه أيضا إلى ثلاثة أبواب، خص الباب الأول للتعريف بالتحكيم وللقواعد العامة، والباب الثاني للتحكيم الداخلي، والباب الثالث للتحكيم الدولي وقد أحسن المشرع صنعا بهذا التصنيف.
إن القانون أتى بمصطلحات جديدة تتجاوب بالتأكيد مع معطيات العصر وتواكب التقدم السريع للتكنولوجيا والعلم، وهو ما سار عليه مشروع 17/95، ونخص منها أن القانون05/08 خص قسما بأكمله للتحكيم الدولي إلى الجانب الداخلي أو الوطني وأرسى لبنة مساطر تنظيمه[3].
وبناء على المقتضيات التي تبناها المشرع المغربي يتبين لنا أنه يشترط لقيام عقد التحكيم توافر الشروط الشكلية إلى جانب الموضوعية التي حددها القانون في عدة مقتضيات.
تتمثل الشروط الشكلية في شرط الكتابة بمفهومها الواسع[4]ويجب أن يشار في العقد تحت طائلة البطلان إلى موضوع النزاع واسم المحكم أو المحكمين وتحديد آجال لإصدار حكم المحكمين.
وفي حالة إغفال ذلك الآجال فإن المحكمين يستنفذون صلاحياتهم وسلطتهم بمرور ثلاثة أشهر من تاريخ تبليغ تعيينهم وما يعاب هنا عدم الإشارة إلى الجزاء المرتب في حالة وجود ضرر في التأخير من أحد الأطراف.
وشرط الكتابة مثلا حددته كذلك مجموعة من التشريعات المقارنة، فقد حدده قانون المرافعات المصري في المادة 501 منه، وكذلك المادة 173/2 من قانون المرافعات الكويتي، والمادة 509 من قانون السوري، وقد جاء في هذه القوانين بصيغة واحدة " لا يثبت عقد التحكيم إلا بالكتابة".
ولقد خول المشرع شكلين من أجل سلوك مسطرة التحكيم هما بند أو شرط التحكيم وعقد التحكيم وهذا ما كرسه قضاء النقض في أحد قراراتها جاء فيها " حيث أوضحت الطالبة بموجب مقالها الاستئنافي بأنه لا وجود لأية علاقة تعاقدية، وبالتالي لا وجود لأي شرط تحكيمي أو اتفاق على التحكيم"[5].
وما نلاحظه أيضا في هذا القانون أنه أعطى تعريفا للتحكيم من خلال الفصل 307 وعرف عقد التحكيم في الفصل 314 رغم أن مهمة التعريف من اختصاص الفقه والقضاء، وهو أمر غير مرغوب فيه حيث يتعارض أيضا مع التوجه الذي صيغ به القانون النموذجي الذي تم إقراره من قبل لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية وكذا اتفاقية عمان للتحكيم التجاري، ولا في أي من التشريعات التي تعتبر مرجعا في مجال قوانين التحكيم والهدف من هذه الوسائل هو إنهاء النزاعات لا الدعاوى كما في القضاء الرسمي أحيانا.
وبالرجوع إلى الفصل 47/327 من القانون السالف ذكره المندرج ضمن الفرع الثاني المتعلق بالتحكيم الدولي أن ترجمة الحكم التحكيميأو اتفاق التحكيم إلى اللغة العربية أمر ننتقده بكل موضوعية مادام المشرع الدستوري في الفصل 5 من دستور 2011 كان واضحا بشكل مطلق في اعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية ومن المفروض والصواب احترام الدستور الذي يعتبر أسمى تعبير عن إرادة الأمة ويجب الاحتكام للقانون لا للواقع.
المطلب الثاني: قراءة نقدية لشكلية مقتضيات الوساطة الاتفاقية
نظم المشرع المغربي الوساطة كألية بديلة لحل المنازعات بموجب القانون 08/05 حيث من خلال هذا القانون يمكن للأطراف المتنازعة اختيار وسيط أو أكثر لحل منازعاتهم واختيار مسطرة الوساطة بشكل تفاوضي لا يخرج عن قانون إرادتهم.
والملاحظ أن تنظيم المشرع المغربي للوساطة الاتفاقية لا يختلف كثيرا عن الكيفية التي نظم بها التحكيم، حيث قام بتعريف مجموعة من المفاهيم من قبيل الوساطة في الفصل 56/327، وشرط الوساطة في الفصل 61/327، وكما أشرنا فمهمة التعريف من اختصاص الفقه والقضاء وليس التشريع كما أن ذلك يثير صعوبات نظرا لما تعرف الحياة العملية من تحولات متسارعة وبالتالي فالفلسفة التي اعتمدها المشرع في صياغة التعاريف آنذاك قد لا تواكب الفلسفة الجديدة والمستقبلية.
وبالرجوع إلى الفصل 64/327 من قانون المسطرة المدنية نجده ينص على أنه " يجب على المحكمة المحال إليها نزاع في مسألة أبرم الأطراف في شأنها اتفاق الوساطة وفقا لمقتضيات هذا الفرع أن تصرح بعدم القبول إلى حين استنفاد مسطرة الوساطة أو بطلان اتفاق الوساطة.
وإذا كان الوسيط لم يعرض عليه النزاع بعد وجب على المحكمة أيضا أن تصرح بعدم القبول ما لم يكن اتفاق الوساطة باطلا بطلانا واضحا.
لا يجوز للمحكمة في كلتا الحالتين أن تصرح تلقائيا بعدم القبول"
فمن خلال هذا النص أعلاه يتبين لنا أن هناك نوع من الغموض في صياغة هذا النص، حيث أن عدم قبول المحكمة لطلب نزاع الأطراف جاء بصيغة الوجوب في الفقرتين الأولى والثانية، وللمحكمة إثارته تلقائيا، في حين أن الفقرة الثالثة من نفس الفصل قيدت المحكمة بعدم التصريح بعدم القبول من تلقاء نفسها، وهو ما يشكل نوعا من التناقض، لذا يجب في اعتقادنا أن يأتي النص بإمكانية المحكمة بالتصريح بعدم قبول الطلب كقاعدة عامة، واستثناء يمكن لها ذلك في حالة بطلانشرط الوساطة أو عقدها.وتجدر الإشارة أن هاته الصياغة نفسها التي جاءت بها بعض القوانين المقارنة كالتشريع الفرنسي[6]والأردني[7].
والملاحظ أيضا في نفس الفصل المذكور سلفا خاصة الفقرة الأخيرة أن عبارة " الأجل الأقصى" يجب إعادة النظر فيها وتحديد هذا الآجال تحديدا دقيقا، ونفس الشيء بالنسبة للفصل 57/327 من نفس القانون في الفقرة الأخيرة خاصة عبارة " أقرب الآجال" حتى لا يكون المجال مفتوحا للتأويلات.
كما أنه من خلال قراءتنا للقانون يظهر لنا أنه لم يتم تحديد الشروط الأساسية لتعيين الوسيط أو الوسطاء، مما يخلق صعوبات في فظ المنازعات وحماية لحقوق وحريات الأطراف.
وجدير بالذكر أن إعادة إحياء ثقافة التصالح والحل الودي في الخلافات الاجتماعية البسيطة أمرا يفرضه الواقع العملي ونموذجا ناجحا في تجربة المغرب منذ زمن طويل لأن الهدف المنشود هو إنهاء النزاعات والصراعات وليس إنهاء الدعاوى لتعم الطمأنينة والاستقرار المعاملات وتطويرها وتنميتها.
ومن المسائل التي أغفلها هذا القانون ضعف في الجانب المؤسساتي مما يساهم في تكريس أزمة ثقافة الوسائل البديلة حيث لا تتعدى 9 مراكز وتابعة لغرفة التجارة والصناعة والخدمات ولا تتوفر على الاستقلالالأمر الذي يجب إعادة النظر فيه.
خاتمة:
يظهر من خلال هذه الدراسة أن القانون 05/08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية جاء بمجموعة من المقتضيات البالغة الأهمية سواء المتعلق بالجانب القانوني أو المؤسساتي بهدف خلق ضمانات لحماية كل الأطراف المتنازعة، واستقرار المعاملات وتنميتها بدل اللجوء للقضاء الرسمي. غير أنه وعلى الرغم من المجهودات المبذولة في صياغة هذا القانون شكلا وموضوعا في سبيل نشر ثقافة المصالحة والوسائل البديلة عامة، فإن هناك معيقات قانونية وواقعية أعلنت وجودها على المستوى العملي مما يفرض تدخلا من المشرع لمكافحتها حتى تنجح تجربة القضاء البديل في المغرب وتطويرها إلى جانب مؤسسة القضاء الرسمي وهو ما تم بالفعل في ظل مشروع 17/95 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، فأي فلسفة جاء بها هذا المشروع؟
يمكنك تحميل المقال من هنا
[1] كالرسالة الملكية الموجهة إلى السيد وزير العدل حول التدبير اللاتمركز بتاريخ 9 يناير 2002،على ضرورة مراجعة مساطر التسوية التوافقية لما قد ينشأ من منازعات بين التجار...." كما أكد جلالته على هذا في خطابه السامي بمناسبة افتتاح السنة القضائية بأكادير بتاريخ 29 يناير 2003 "على ضرورة وضع مدونة للتحكيم التجاريّ ... للتفصيل أكثر راجع: عبد المجيد غميجة " نظام الوساطة الاتفاقية بالمغرب" مقال منشور بمدونة المنبر القانوني على الموقع الالكتروني www.bibliodroit.comتاريخ الاطلاع 6 يوليوز 2019 على الساعة الثانية مساء، ص 114
[2] رضوان الزهراوي، معوقات التحكيم الدولي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، سلا، السنة الجامعية 2008/2008، ص75
[3] يوسف زوجال:" تجربة الوسائل البديلة لفض المنازعات في القانون الوضعي المغربي" مكتبة دار السلام الرباط الطبعة الأولى، سنة 2018، ص:27
[4]كما هو الشأن في المجال الالكتروني والمطابق مع القانون 05/53 المتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية و تجدر الإشارة أن الكتابة هنا للانعقاد قبل أن تكون للإثبات رغم القانون05/08 لم يفصح عنه بشكلي جلي.
[5] قرار قضاء النقض أورده، يوسف زوجال، التحكيم في القانون المغربي بين الماضي والحاضر والمستقبل، مقال منشور بالموقع الالكتروني www.marocdroit.comتاريخ الاطلاع 1نونبر 2018 على الساعة الثانية والنصف زوالا.
[6]L’article 131-1 du nouveaux code de procédure civile dispose « le juge saisi d’un litige peut, après avoir recueilli l’accord des parties, désigner une tierce personne afin d’entendre les parties et de conter leurs points de vue pour leurs permettre de trouver une solution au conflit qui les oppose.
[7] تنص المادة 3 من قانون الوساطة لتسوية المنازعات الأردني رقم 12 على أنه " لقاضي إدارة الدعوى أو قاضي الصلح، وبع الاجتماع بالخصوم أو وكلائهم القانونيين إحالة النزاع بناء على طلب الأطراف أو بعد موافقتهم إلى قاضي الوساطة أو الى وسيط خاص لتسوية النزاع وديا..."