جريمة القتل الخطأ : الركنين المادي والمعنوي للجريمة
تطرقنا في الفصل الأول من بحثنا جرائم القتل العمد، ما كان منها بسيطا، وما كان مشددا أو مخففا، وغرضنا في الفصل الثاني، أن نعالج أحكام جرائم القتل الخطأ التي تعتبر كذلك من الجرائم الواقعة على حياة الإنسان وسلامته.
فمن المسلم به أن القتل العمد يتفق والقتل الخطأ الذي يسمى أحيانا بالقتل ” غير العمدي ” في أن محل الجريمة في كل منهما هو الإنسان الحي، كما يتفقان في إن النشاط الذي يقوم […]
[…] به الجاني يفضي في كل الأحوال إلى وفاة المجني عليه ، فالنتيجة الإجرامية هي واحدة، سواء القتل عمدا أو خطأ، ولكن التشابه لا يتجاوز هذه الوجوه التي ذكرنها، حيث سرعان ما يبدو الاختلاف صريحا وواضحا في الركن المعنوي، فبينما يوجه الجاني إرادته في جرائم القتل العمد إلى الفعل وإلى النتيجة الإجرامية الناتجة عن فعله وهي الوفاة . فهو في جرائم القتل الخطأ يريد الفعل ،ولكنه لا يريد النتيجة ولا يرغب في إحداث الوفاة. ففي النوع الأول يتجلى الركن المعنوي في القصد الجنائي وفي النوع الثاني ينتفي القصد ويسأل الفاعل عن الخطأ الذي ارتكابه بإهمال أو عدم احتياطه أو لمخالفته للنظم والقوانين، ما أدى أو أفضى إلى ما لم يكن يريده من نتيجة ضارة .
فجرائم القتل الخطأ من الجرائم القليلة التي يعاقب المشرع الجنائي مرتكبيها وإن انعدم في نفوسهم القصد ولم يكونوا يريدون إحداث ما حصل من نتائج سلبية.
ويؤسس المشرع العقاب في مثل هذه الحالات على ارتكاب الفاعل الخطأ مما سبب في حصول النتيجة الإجرامية.
فحكمة العقاب هي في الحرص على أرواح الناس، والرغبة في حماية سلامتهم وصحتهم، فلا ينالهم سوء ولا أذى ولو كان هذا الأذى ناجما عن خطأ لا عن قصد، وليس مثل هذا الحرص جديدا ولا محدثا بل أن الشرائع القديمة كانت تبدي اهتماما بحماية الروح البشرية من كل اعتداء ، وتعاقب المساس بها بأقصى العقوبات، فنجد الشريعة الإسلامية الغراء مند أول عهدها حددت العقوبة الدنيوية والأخروية لجريمة القتل سواء كان عمدا أو خطأ.
أما التشريعات الحديثة فقد أعطت أهمية كبيرة للقتل بنوعيه، ذلك لما له من آثار وخيمة. فقد تزايد عدد الضحايا بشكل ملفت ومخيف بسبب حوادث السير، التي تعتبر بلادنا نموذجا لما يسمى بحرب الطرق ، وكذا حوادث الشغل وغيرها من الآفات التي يكون فيها للإنسان نصيب من وقوعها مما أوجب على المشرع المغربي اتخاذ تدابير زجرية ووقائية للحد من هذه الجرائم.
فبالرجوع إلى الفصل 432 من ق ج م نجده يحدد لنا جريمة القتل الخطأ التي تعتبر جريمة غير عمدية قوامها الخطأ الجنائي بحيث نص الفصل المذكور على أن ” : من ارتكب بعدم تبصره أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته النظم والقوانين قتلا غير عمدي أو تسبب فيه عن غير قصد يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات وغرامة من250 إلى 1000 درهم “.
وبناءا على هذا الفصل فإن جريمة القتل غير العمدي وكما تدل عليه تسميته فعل يرتكبه الجاني بغير أن يقصد الموت ، ولكنه يكون في وسعه تجنبه إذا تصرف باحتياط وحذر، فالفرق بينه وبين القتل العمد وكما أسلفنا الذكر ينحصر في أن القاتل عمد يستخدم إرادته في إحداث الوفاة أما القاتل خطأ فينعدم عنده القصد الجنائي أي الركن المعنوي بحيث نكون أمام خطأ جنائي.
وتعتبر جريمة القتل الخطأ من الجرائم المادية لا الشكلية حيث تمثل النتيجة الإجرامية ورابطة السببية أهمية كبيرة في البناء القانوني للجريمة فما لم تحدث الوفاة فلا قيام للمسؤولية الجنائية عن القتل غير العمدي إذا لا تتصور المحاولة في نطاق هذه الجريمة وإن كان ذلك لا يحول دون القيام مسؤولية الفاعل عن جريمة الإصابة الخطأ إذا توافرت عناصرها الفصل 433 ق ج ) فمن غير الممكن أن يشرع إنسان في قتل لا يقصد أصلا إحداثه حتى يقال أنه شرع في تحقيقه وكذا فإن الاشتراك في الجريمة غير متصورا لأنه لا يمكن أن ينسب إلى إنسان الاتفاق أو التحضير أو المساعدة على حدث غير متوقع أصلا منه .
المبحث الأول : أركان القتل الخطأ
إذن من خلال ما سبق يتضح أن أركان القتل الغير العمد اثنان وهما قتل الجاني المجني عليه وهو الركن المادي ( المطلب أول) وأن يكون هذا القتل عن غير قصد أي نتيجة خطأ وهو الركن المعنوي ( مطلب ثاني )
المطلب الأول: الركن المادي:
القانون الجنائي لا يعاقب على النية وما يضمره الفرد من أفكار ومعتقدات، لأن أساس التجريم كما ورد في المادة الأولى من القانون الجنائي، هو ما تحدثه الجريمة من اضطراب اجتماعي والأفكار والمعتقدات ما دامت في خيال صاحبها لا ينشأ عنها أي اضطراب أو خلل في حياة الجماعة، وإنما الذي يفعل ذلك هو النشاط الخارجي للفرد سواء ظهر هذا النشاط في صورة حركة للجسم أو في صورة الامتناع عن القيام بفعل يأمر به القانون الجنائي وبما أن جريمة القتل الخطأ من جرائم النتيجة فإن قوام الركن المادي فيها هو فعل الاعتداء الصادر عن الجاني (أولا) يكون هو السبب في النتيجة الإجرامية ( ثانيا) التي هي الوفاة أي وفاة المجني عليه الإنسان . وقيام علاقة سببية بين الفعل والنتيجة ( ثالثا)
أولا : فعل الجاني ( النشاط الإجرامي)
لا قيام لأي جريمة بدون نشاط خارجي يصدر من الجاني وتدركه الحواس والذي يكون العنصر الأول في الركن المادي للقتل الخطأ ينسحب إلى كل نشاط إرادي يؤدي إلى وفاة الضحية ، لكن دون قصد إحداث النتيجة ويستتبع هذا القول بأن النشاط الذي يأتيه الشخص غير إرادة لا يمكن معه المساءلة ولوادي إلى إزهاق روح إنسان ونحو ذلك قتل سائق سيارة أحد المارة بعد انقلابه عليه بسبب سقوط شجرة على سيارته في الطريق الذي يمر به نتيجة إعصار فجائي شديد. أو موت ساكني بيت نتيجة انهياره بسبب عدم إصلاح المالك له، اتضح بعد ذلك أن هذا الأخير كان فاقد للإدراك كإصابته بالجنون والقتل في هذين المثالين ناتج عن قوة قاهرة أو حدث فجائي تنتفي يه المسؤولية عن جريمة القتل الخطأ وعموما فكل ما يشترط في النشاط المفضي إلى الموت هو أن يكون إراديا هذا ويستوي أن يكون الفعل الإرادي الصادر عن الفاعل إيجابيا أي نتيجة القيام بفعل أو أن يكون سلبيا وهو الامتناع عن القيام بفعل . ومثاله أن يهمل صاحب عقار حائط متداع فيسقط على ساكنيه ويؤدي إلى وفاتهم وهو ما يستفاد من الفصل الذي عدد صور نشاط الجاني المؤدي إلى المسؤولية الجنائية والتي منها الإيجابي ، كعدم مراعاة القوانين والأنظمة ومنها السلبي كالإهمال ، كما لا عبرة بطبيعة النشاط الصادر عن الجاني . فالجريمة تقوم سواء كان الفعل يحضره أم لا كمن تسبب عن غير عمد في حريق نتج عنه موت شخص أو أكثر ( ف 435 ق ج ) أو تسليط حيوان على شخص بقصد إكراهه على الإتيان بشيء كالاعتراف أو بإمضاء وثائق ضد إرادته. فيهاجم هذا الحيوان المجني عليه ويقتله، أو أن يكون نشاطه مباحا لا يحضره القانون كمن يحفر بئرا في أرضه ولا يتخذ الاحتياطات اللازمة كإقامة حواجز حوله فيسقط فيه عابر سبيل ليلا فيموت .
ثانيا : النتيجة الإجرامية( الوفاة)
إن الغاية من التجريم هو حماية الحقوق التي تضمن سلامة كيان المجتمع واستمرار التعايش الاجتماعي المرغوب فيه لذلك فإن من البديهي أن يكون الاعتداء على أي حق من هذه الحقوق يعتبر جريمة. والنتيجة الإجرامية التي تكون أحد عناصر الركن المادي ما هي إلا ما يشخصه ذلك الاعتداء من تغيير في العالم الخارجي وما يمثله من انتهاك لأحد حقوق الجماعة .
فجريمة القتل غير العمدية لا تتحقق أبدا ما لم يمت المجني عليه بسبب نشاط المتابع مهما كان الخطأ الذي ارتكبه هذا الأخير من الفداحة والجسامة وعليه فلو أصاب الفاعل المجني عليه إصابة خطيرة في حادث سير مثلا . إلا أن المجني عليه عولج وأنقد فإن الجاني لا يسأل إلا عن جريمة الإيذاء الخطأ . وليس عن محاولة القتل . إنما لا يشترط أن تكون الوفاة قد حصلت عقب ارتكاب الجاني لنشاطه مباشرة.. بل قد تتراخى إلى وقت قد يطول وقد يقصر وكل ما ينبغي توافره هو أن تكون الوفاة: قد حدثت بسبب نشاط الجاني فقط ما دامت العلاقة السببية ثابتة.
هذا وإن اعتبار النتيجة الإجرامية أحد عناصر الركن المادي لا تتحقق الجريمة بدونه قائم على مبدأ أن التجريم لا يتعلق إلا بالاعتداء الفعلي على أحد حقوق الجماعة تطبيقا لمنطق العدالة وصيانة الحقوق الفردية. فهي العامل الأساسي المؤثر والصغير في العالم الخارجي الذي يشمل الواقع المادي والواقع النفسي المعنوي.
فجريمة القتل الخطأ تحدث تغييرا في العالم أو الواقع المادي يتمثل في نشاط الجاني وتحدث تغييرا في العالم النفسي بما يترتب عليها من تأثير في نفسية الجماعة.
ثالثا : العلاقة السببية بين النشاط والنتيجة .
لكي يقوم الركن المادي في جريمة القتل الخطأ لا بد وأن تتوافر رابطة السببية بين نشاط القاتل والنتيجة الإجرامية التي هي الوفاة ، بمعنى أن يكون هذا النشاط هو السبب المباشر لحصول النتيجة ، وإن انتفت هذه العلاقة انتفت الجريمة .
وغني عن القول أن العلاقة السببية كعنصر في الركن المادي خاصة بجرائم النتيجة أما الجرائم الشكلية فلا وجود فيها لهذه العلاقة لأن النتيجة نفسها غير ضرورية بالنسبة إليها، حيث أن المعيار الذي تقاس به رابطة السببية في هذه الجريمة هو نفس المعيار الذي يلجأ إليه للبحث في وجود هذه العلاقة أو انعدامها في جميع الجرائم ذات النتيجة عمدية . أو غير عمدية . وإذا كانت العلاقة السببية بين نشاط الجاني وبين النتيجة الإجرامية تبدو واضحة أحيانا فإنه في الكثير من الأحيان تتطلب من القاضي مجهودا غير يسير في البحث والاستقصاء لاكتشافها ولإبراز التسلسل الطبيعي بين الفعل والنتيجة، وخاصة في جرائم القتل الخطأ حيث يثور التساؤل حول من المسؤول عن الخطأ؟
تتبلور صعوبة تفسير العلاقة السببية على الخصوص عندما تشترك مع نشاط الجاني أسباب أخرى في إحداث نتيجة إجرامية معينة ، كان ذلك النشاط وحده عاجزا عن تحقيقها، وهذه الأسباب قد تكون سابقة على النشاط الإجرامي كمرض المجني عليه وقد تكون معاصرة له كجرح الضحية بأداة سامة أدت في ما بعد إلى وفاته، وأخيرا قد يأتي السبب لا حقا لفعل الجاني مثل جهل الطبيب أو خطأه في معالجة الجريح أو إهمال هذا الأخير معالجة جروحه حتى مات في هذه الحالات نرى أن النشاط المادي ( الجرح الخفيف ) المنسوب للمتهم لم يكن لتترتب عنه النتائج الخطيرة ( الموت) لولا تدخل أسباب أخرى أجنبية عن ذلك النشاط ، فما هو الحل.؟ هل يؤاخذ الجاني بالنتيجة التي تحققت باعتبار أن نشاطه هو الذي أحدثها . إذ لولها لما وقعت ؟ أو نقتصر على مساءلته على فعله المباشر وما عدا ذلك ينسب إلى شخص آخر كالطبيب في إطار القتل الخطأ عن طريق الإهمال إن وجد ؟ أو إلى القضاء والقدر ؟ الواقع أن الفقه لم يحكم على المشكلة بهذا العموم وإنما ادخل بعض الاعتبارات التي تستوجبها العدالة والمنطق كالنظر إلى فعل الجاني هل كان كافيا لإحداث النتيجة التي وقعت أم لا؟ وإذا لم يكن فهل كان في الإمكان حدوثها لولا ذلك الفعل؟ كل هذه التساؤلات حاول الفقه الإجابة عنها في إطار ثلاث آراء :
الرأي الأول : يشترط لمسألة الجاني أن يكون نشاطه كافيا وحده لإحداث النتيجة التي وقعت وإلا اقتصرت مسؤوليته على نشاطه المباشر فقط. ونلاحظ أن هذا الرأي يضيق من نطاق المسؤولية باشتراط ضرورة كفاية فعل الجاني لإحداث النتيجة بحسب العادي من الأمور .
الرأي الثاني : اتخذ معيارا اكثر صرامة ضد الجاني ويتلخص في أن المسؤولية تتقرر في كل حالة يكون فيها النشاط الإجرامي ضروريا لإحداث النتيجة ولو لم يكن كافيا وحده لوقوعها فالذي يضرم النار في عشب فتحدث عاصفة تذهب بالنار إلى منزل تحرقه مع شخص كان بداخله يتابع كمرتكب لجريمة قتل الخطأ . ذلك أن نشاطه هو الذي مهد إلى الأسباب الأخرى فلو لم تجد العاصفة النار مشتعلة لتعذر احتراق المنزل وبالتالي وفاة الشخص الذي بداخله ولهذا الرأي وجاهته التي لا شك فيها من حيث الدفاع عن المصلحة الاجتماعية حتى لا يجد الجناة سبيلا إلى الاحتماء بأسباب أجنبية عن نشاطهم أترث في النتيجة الإجرامية التي لا يجادل أحد في أنه لولا عملهم لما حدثت .
أما الرأي الثالث في الفقه فيقول أن هذه الأسباب المضافة إلى نشاط الجاني إذا كانت منتضرة حسب العادي من الأحوال فإنه لا يلتفت إليها وتعتبر كأن لم تحدث أما إذا كانت غير عادية فتجب المسؤولية وتقصرها على فعله المباشر فقط.
ويعاب على هذا الرأي أنه يجعل مقياس المسؤولية هو توقع الجاني ، أو عدم توقعه لما يترتب على نشاطه المباشر ومن الأمثلة الشائعة في جرائم القتل الغير العمدي مالك العقار الذي يهمل الاعتناء به فينهار البناء ويصيب عابر سبيل بجروح غير قاتلة لكنه يقصر في المعالجة فيموت هل من المنطق القول بأن الضحية إذا كان جاهلا يفترض أن المالك كان يتوقع هذا الجهل وبالتالي عدم الاعتناء بالمعالجة فيتابع بالقتل الخطأ. أو إذا كان واعيا يفترض أن المالك كان يتوقع وعيه وبالتالي الاعتناء بنفسه فيؤاخذ بجريمة الجرح الخطأ لا غير؟ إن المنطق القانوني بعيد كل البعد عن تبني مثل هذه الحلول .
أما عن المشرع المغربي فلم يضع بنص صريح معيارا للرابطة السببية.فالمادة 432 تعاقب من ” تسبب ” في القتل الخطأ. والمادة 433 تؤاخذ بالجرح الخطأ من تسببه فيه ، والمادتين 607و608 تعاقبان جريمة إحراق مال الغير خطأ لكن إذا نتج عنه موت شخص أو أكثر وإصابته بجروح يعد مرتكبا للقتل أو الإصابة الخطأ ويعاقب بهذه الصفة .
هذه الجرائم الغير العمدية التي تتدخل فيها مع نشاط الجاني أسباب أجنبية وتؤثر في النتيجة النهائية لها نلاحظ أن المشرع تجنب فيها الإشارة إلى تلك الأسباب الأجنبية وبيان الحكم عند تدخلها مكتفيا باستعمال فقط ألفاظ ” تبين ” أو نتج ” وهذه الكلمات تترك المجال للقاضي ليقرر في كل قضية بعينها وجود رابطة السببية أو انعدامها بتدخل عامل أجنبي عن فعل الجاني
المطلب الثاني : الركن المعنوي
إن قوام الركن المعنوي في جريمة القتل الخطأ هو الخطأ الجنائي وتكتسي دراسة هذا العنصر أهمية قصوى خصوصا مع اتساع نطاق الجرائم غير العمدية في العصر الحاضر نتيجة التقدم العلمي والتكنولوجي المتزايد .
ومن التطبيقات العملية الشائعة للخطأ الذي تترتب عنه الوفاة نجده في عدة ميادين منها حوادث الشغل حوادث البناء والأشغال العمومية والخطأ الطبي والصيدلة وحراسة الحيوانات . ومجال النقل الذي يستحوذ على النصيب الأكبر في نطاق حوادث السير عن طريق الإهمال وعدم الاحتياط وعدم مراعاة النظم القوانين.
فالمادة : 432 سردت الحالات أو الصور التي تتحقق بها الجريمة غير العمدية والمختصرة في الخروج منه سلوك الشخص المتبصر اليقظ. فالذي يتسبب في القتل بحادثة سير لا يسأل جنحيا إذا التزم في سيره كل الاحتياطات التي يلتزمها السائق المتبصر في حين يكون مسؤولا إذا خرج عن هذا السلوك ولذلك فإن الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية يتحقق بثبوت الرعونة وعدم احتياط في سلوك الجاني ، وكلما أتبت المتهم انعدام هذه الرعونة انتفى الركن المعنوي وتخلص من المسؤولية .
إذن سنقوم بتحديد تعريف الخطأ الجنائي ( أولا) ثم عناصره ومختلف صوره ( ثانيا) وبعد ذلك سنتطرق إلى إشكالية تحقق الخطأ في مخالفة النظم والقوانين (ثالثا) .
الفقرة الاولى : تعريف الخطأ الجنائي
بالرجوع إلى القانون الجنائي المغربي نجد أن المشرع لم يعرف الخطأ الجنائي ولم يبين ماهيته لدى سنقوم بإعطاء مجموعة من التعاريف الفقهية في ميدان الخطأ الجنائي فقد عرفه الفقه المصري بأنه ” إخلال المتهم بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها القانون وعدم حيلولته تبعا لذلك دون أن يفضي تصرف إلى حدوث النتيجة الإجرامية في حين كان ذلك في استطاعته ومن واجبه ” .
أما الفقه السوري فقد عرف الخطأ ” بأن لا يتخذ الفاعل في سلوكه الاحتياط الكافي الذي يجب على الشخص الحريص المتبصر اتخاذه لمنع ما عسى أن يترتب على سلوكه هذا من نتائج ضارة بالغير ” .
أما عن الفقه المغربي فقد عرفه الدكتور الخمليشي بأنه ” كل عمل أو امتناع إرادي لم يقصد به الفاعل قتل إنسان ومع ذلك ترتبت عنه الموت نتيجة عدم تبصره أو عدم احتياطه أو إهماله ” وعموما يمكن جمع هذه التعاريف في تفسير الخطأ بأنه الانحراف من سلوك الرجل العادي المتبصر الموجود في نفس ظروف مرتكب الخطأ فالفاعل عندما يقوم بالعمل الإيجابي أو الامتناع يكون من جهة لا يتوقع نهائيا حدوث الموت بسبب تصرفه أو كان يتوقعه على وجه الاحتمال ويقصد به مجرد الاحتمال البسيط أو الضعيف . ويمضي في تنفيذ الفعل عن تهور طيش أو بناءا على اعتقاده بأنه قادر على تفادي النتيجة المحتملة ومن جهة ثانية يجب أن يكون قيامه بالفعل في كلا الحالتين متسما بعدم التبصر أو عدم الاحتياط أوعدم الانتباه أو الإهمال ففي حالة التوقع إمكانية حدوث النتيجة يكون عدم الاحتياط أو التبصر ظاهرا بإقدامه على تنفيذ الفعل وهو يتوقع عن إمكانية حدوث الموت ، وفي حالة عدم توقعه النتيجة يجب أن يثبت اتصاف تصرف الفاعل بالإهمال أو عدم التبصر . وتتحقق هذه الصفة في التصرف إذا كان الرجل العادي المتبصر اليقظ الموجود في نفس ظروف الفاعل لا يقوم به .
فقد يكون الفعل المادي أو الامتناع في جريمة القتل الخطأ في حد ذاته جريمة وقد لا يكون كذلك فإن كان تصرف الفاعل جريمة لم تكن النيابة في حالة إلى إثبات الإهمال لأن الجريمة تصرف خاطئ بطبيعته، ولكن يبقى للمتهم إمكانية دفع المسؤولية بنفي العلاقة السببية بين نشاطه وبالموت كما إذا كان يسوق السيارة دون توفر رخصة السياقة فخطأه هنا ثابت ومع ذلك وفي إطار التحايل على القانون يمكنه أن يبعد عنه المسؤولية عن القتل الخطأ بنفي العلاقة السببية كأن يثبت مثلا أنه يسير وفق ضوابط قوانين السير وأن ما حدث كان سببه خطأ الضحية أو قوة قاهرة أو حدث فجائي.
أما إذا كان التصرف ذاته لا يكون جريمة فيتعين على النيابة العامة أن تثبت أن الرجل اليقظ المتبصر لا يقوم به ، وذلك مثل قيام طبيب بعملية جراحية دون الاحتياطات التي يراعيها الطبيب المتبصر الحذر في تلك العملية أو دون التقيد بالأصول العملية المفروضة طبيا في إنجاز العملية ذاتها . إذن يتبين من هذا كله أن الإهمال أو عدم التبصر في تصرف الجاني يتحقق إما بتوقع الفاعل نفسه إمكانية تسببه في الموت ، وإما باتصاف التصرف ذاته بصفة جريمة معاقب عليها جنائيا وإما بإثبات النيابة العامة أن الشخص المتبصر المتصف باليقظة والحذر الضروريتين لا يقوم به في الظروف المحيطة بالفاعل .
ويقاس تصرف المتهم بسلوك الشخص المتبصر, المحتاط من سواد الناس, إذا كان سلوكا عاديا أو من فئته إذا كان المتهم ينتمي إلى فئة خاصة تتميز بالطابع الفني كالطبيب.
الفقرة الثانية: عناصر الخطأ وصوره
أولا- عناصر الخطأ .
لقيام ركن الخطأ في جريمة القتل غير العمدي ينبغي توافر شرطان أو لهما هو عدم مراعاة الجاني لمقتضيات الحيطة والحذر في سلوكه الذي تسبب في وقوع الجريمة، بان يكون قد أتى السلوك على غير ما كان يجب عليه ان يأتيه به.
يجب أن نلاحظ هنا الفرق بين السلوك وبين طريقة إتيانه الفعل ، فالسلوك في حد ذاته قد يكون مباحا ومصرحا به قانونا .ولكن الجاني لم يأت به على النحو الذي رسمه القانون أو أقرته الخبرة الإنسانية العامة في هذا المجال فالقانون يبيح إجراء العمليات الجراحية ويبيح قيادة السيارات ولكن الطبيب الذي يقوم بإجراء العملية الجراحية يجب عليه أن يراعي أثناء عمله مقتضيات الحيطة والحذر وهذه المقتضيات قد تكون محددة قانونا وقد تكون من الأمور المتعارف عليها في نطاق المهنة يكون سلوكه بالتالي مصدر لوم القانون إن نتج عنه جريمة وجب مسألته عنها .
أما الشرط الثاني وهو العلاقة النفسية التي تربط بين الفاعل وحدوث النتيجة هذه العلاقة النفسية تأخذ أحد الصورتين، إما أن الجاني لم يتوقع النتيجة مطلقا حينما أتى فعله، وبالتالي لم يبذل الجهد الكافي للحيلولة دونها في حين انه كان في إمكانه ذلك وكان من واجبه وهو ما يطلق عليه ” بالخطأ بدون تبصر ” كمن يقود سيارة وهو غير ملم إلماما كافيا بالقيادة ، أما الصورة الثانية فتتجلى في أن يتوقع الجاني حدوث النتيجة ولكنه لا يرغب في حدوثها ويعتمد على مهاراته أو قدراته في تلافي حدوثها، كمن يقود سيارة بسرعة غير عادية في طريق مزدحم بالمارة ، فيرد على ذهنه إمكانية إصابته لبعض المارة ولكنه يثق في قدرته على إمكانية تلافي ذلك وهو ما يسمى ” بالخطأ مع التبصر” .
ثانيا-صور الخطأ :
عدد الفصل 432 صور الخطأ التي تقوم بها المسؤولية الجنائية عن القتل الخطأ، هذه الصور جاءت متداخلة الدلالة مع بعضها إلى حد كبير يتعذر الفصل بين مفاهيمها حيث يقال أن الإنسان لم يحتط لأنه لم يتبصر، ولو تبصر فلم يحتط فهو مهمل ولكن مقدار الخطأ على أي حال لا أثر له في تقرير المسؤولية حيث يكفي ثبوت الخطأ في أي صورة من الصور الخمس لكي تقوم مسؤولية الجاني مادامت العلاقة السببية بين الخطأ والنتيجة متوافرة .
وقد تجتمع هذه الأخطاء مع بعضها أو حتى أن تندمج في بعضها، وليس ضروريا أن يكون الخطأ الذي يدخل في تكوين الجنحة إراديا أو حتى مرتكبا عن وعي فحتى لو لم يكن الفاعل قد توقع نتائج خطاه فإن المسؤولية تكون قائمة بسبب عدم تقديره وتوقعه لعواقب فعله ، بحيث تنم في مجملها عن استخفاف الفاعل إزاء قواعد الفطرة السليمة والحيطة اللازمة .
من خلال ذلك سنعرض أبرز صور الخطأ بالتي يبدو أنها مذكورة على سبيل المثال لا على الحصر.
1-عدم التبصر :
تقوم هذه الصورة من صور الخطأ الجنائي كلما أبان تصرف الفاعل عن سوء تقدير الأمور، أو كون الشخص تنقصه المهارة والبراعة الجسمانية فإذا كان تصرف الإنسان العادي إزاء موقف معين يتطلب منه نوعا من الرؤية والحذر لتقدير نتائج ذلك التصرف نجد الجاني في هذه الحالة يندفع عند أول خاطر يحول بذهنه دون إعمال ذلك التقدير . وهذا النوع من الخطأ غالبا ما يرتكب في إطار مهني فني من طرف الأطباء والصيادلة وغيرهم ممن يتسببون في قتل إنسان نتيجة عدم قيامهم بعملهم كما يجب أوجهاهم لقواعد المهنة التي لا يجوز لمثلهم جهلها أو عدم القيام بها كما ينبغي ومثال ذلك الطبيب الذي يحدد لمريض السكري كمية من مادة الأنسولين دون الإطلاع على نتائج التحاليل التي أوصى بها له فيموت المريض نتيجة عمله .
2- عدم الاحتياط وعدم الانتباه
وهما صورتان للخطأ الذي ينطوي عليه نشاط إيجابي ويتحققان عندما يقدم الفاعل على تصرف يدرك خطورته وما يترتب عليه من نتائج ضارة ورغم ذلك لا يتخذ الإحتياطات اللازمة التي تكفل درئ المخاطر وتلافي حصولها .
وقد يعتبر عدم الاحتياط نوعا من عدم الانتباه لأنه في كافة الأحوال تصرف من الجاني على نحو ينبغي فيه الحرص والحيطة ومع ذلك يتميز بعامل الاندفاع الذي يعبر عنه بالطيش وقلة التحرز للنتائج خطيرة التي قد تترتب من فعل من الأفعال كالشخص الذي يسوق سيارة في مكان آهل بالمارة بسرعة كبيرو غير مناسبة لظروف الزمان والمكان ، فيصدم أحد المارة ويقتله حيث كان بإمكانه تجنب النتيجة لولا تهوره وعدم انتباهه .
3- الإهمال
ويظهر في الموقف السلبي لشخص في مواجهة بعض الأوضاع التي تفرض عليه الحذر وهو الامتناع عن القيام بعمل يفرضه القانون كترك واجب أو الامتناع عن تنفيذ أمر ما أو الامتناع عن اتحاد العناية والوقاية اللازمتين لتجنب حصول النتيجة وفي هذا الصدد جاء في قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 9 أكتوبر 1984 ” لما قضت المحكمة إذانة الطاعن من أجل القتل الخطأ بإهمال بعلة أن إهماله يتجلى في كون الضحية مجرد عامل عادي غير تقني وقد تركه الضنين يمسح مصعد الفندق الذي يقع تشغيله بالكهرباء فالعمل خطر على مثل العامل الضحية. وكان على الضنين أن يتخذ الاحتياطات الكافية واللازمة في مثل الحالة لمنع حدوث ما يمكن حدوثه … من غير أن تبرز المحكمة نوع هذا الإهمال الذي كان بسبب وقوع الاصطدام كمخالفته للأنظمة القانونية للعمل بإهماله لوضع الآلة في مكانها وغير ذلك يكون قضاؤها ناقص التعليل المنزل بمنزله انعدامه .
4-عدم مراعاة النظم والقوانين:
المقصود بالنظم والقوانين كل ما يصدر من تشريعات سواء من السلطة التشريعية أو التنفيذية في الحدود التي تختص بها قانونا . وتمتد لتشمل تنظيمات القواعد العرفية المتعارف عليها في المجال الذي وقع فيه الخطأ. سواء كانت هذه القرارات جماعية أو فردية كالقرار الصادر بسحب رخصة من المتهم أو يمنحه من مزاولة مهنة أو نشاط معين فخالف القرار وقام بالنشاط الممنوع منه فتسبب في قتل غير عمدي . كما يستوي أن يكون الأمر مكتوبا أو شفويا صادر عن جهاز إداري أو من أحد الأفراد الذين يخولهم القانون إصدار تلك الأوامر كأوامر شرطي المرور، ومن ناحية أخرى قد تشمل هذه النظم الأنظمة الداخلية للمؤسسات الخاصة والموضوعة من أجل المحافظة على سلامة الأشخاص وصحتهم .
وقد يكون النظام أو القانون الذي وقعت مخالفته شرعيا في هذه الحالة لا يطرح الإشكال ، أما إذا كان غير شرعي أي مخالف لنص تشريعي أعلى منه أو تجاوز فيه من أصدره حدود اختصاصه فإن مجرد مخالفته لا يبرر المسؤولية الجنائية عما حدث من موت أو جرح مادام لم يثبت ضد الفاعل أي خطأ آخر . هذا الأخير الذي اختلف الفقه بخصوصه بحيث يطرح التساؤل حول تحقق الخطأ في مخالفة النظم والقوانين ؟
ثالثا: تحقق الخطأ في مخالفته النظم والقوانين.
بالنسبة للاشتراط تحقق الخطأ في مخالفته النظم القوانين فإن الفقه انقسم إلى اتجاهين اثنين .
الأول يقول إن مجرد ارتكاب الفاعل لعمل مخالف للقانون أو الأنظمة يجعله مسؤولا عما يترتب عن ذلك العمل من نتائج بصرف النظر عما إذا كان ارتكاب الفعل ذاته يحمل مسؤولية أخلاقية للفاعل أم لا . ويذهب الرأي الثاني إلى أن مجرد مخالفة القوانين أو الأنظمة غير كاف للمسؤولية عن النتائج المترتبة عن الفعل أو الترك وإنما يتعين أن يتوفر في سلوك الفاعل العنصر المعنوي للخطأ أي عدم التبصر أو عدم الاحتياط أو عدم الانتباه أو الإهمال وذلك بأن يكون متوقعا لإمكانية حصول النتيجة أو على الأقل كان عليه أن يتوقعها لو استعمل التبصر الاحتياط الضروريين ويظهر أثر الخلاف بين الرأيين في القوانين والأنظمة التي لا تشكل مخالفتها خطأ أو ذنبا أخلاقيا وفي الجرائم القانونية التي لا يشترط للعقاب عليها توفر القصد الجنائي أو الخطأ أي الإهمال ، كما هو الشأن بالنسبة لأغلبية للمخالفات مثلا أن يحدث عطب مفاجئ في عداد ضبط سرعة السيارة فيظهر للسائق أنه يسير على خمسين كلم بينما هو في الواقع يسير بسرعة غير قانونية فيتسبب في حادثة وفاة . فطبقا للرأي الأول يكون السائق مسؤولا جنائيا عن القتل غير العمدي الناتج عن مخالفته لقانون وإن لم يتوفر في هذه المخالفة العنصر المعنوي للخطأ في حين لا يكون مسؤولا وفق الرأي الثاني الذي يشترط في مخالفة للقانون توفرها على عدم التبصر والإهمال.
يتبين مما سبق أن مخالفة الأنظمة والقوانين لا تكون سببا للمسؤولية عن الموت من غير قصد إلا إذا توفر في هذه المخالفة العنصر المعنوي للخطأ وهذا العنصر يتوفر دائما في مخالفة القوانين والأنظمة المقررة للمحافظة على السلامة العامة . وكذلك في ارتكاب الجرائم القانونية ذات الخطر. وعلى العكس من ذلك مخالفة القوانين التنظيمية وارتكاب الجرائم القانونية التي يعاقب عليها المشرع بقصد فرض أوامر القانون وحماية الأوضاع القانونية المستجدة دون أن يكون سبب التجريم فيها خطر ما على سلامة الأفراد وصحتهم فإن مخالفتها المجردة لا تبرر العقاب على ما يرافقها من موت إنسان ونما يتعين أن يثبت ضد المخالف إهمال أو عدم تبصر أو عدم احتياط كانت له علاقة مباشرة بالموت الذي حدث .