بقلم ذ كرم عرجون و زكرياء بوشلاغم
باحثيين في ماستر العقود والأعمال بكلية الناظور
تعتبر الاستثمارات في هذا العصر العنصر الرئيسي الذي ترتكز عليه الخطط الاقتصادية العامة في معظم الدول نتيجة عولمة الأسواق،
ونظرا لهذا التطور فقد عملت الدول –خاصة النامية- على الاستفادة منه في جذب الاستثمارات الأجنبية، غير أن المستثمر الأجنبي قبل أن يستثمر أمواله في دولة ما يجري دراسة مستفيضة، تشمل العديد من الجوانب التي تضمن له تحقيق أكبر قدر من الربح، تتمثل هذه الجوانب أساسا في المزايا المالية كالإعفاءات الضريبية، والحصانات من التغيرات التشريعية، وأهم من ذلك كله، الضمانات القضائية المتمثلة في الوسائل المتاحة لتسوية نزاعات الاستثمار
ولقد أدى غياب نظام قضائي متخصص لفض منازعات الاستثمار بين الدول والمستثمرين الأجانب إلى تدعيم وتأكيد الدور الفعال والمتزايد للتحكيم التجاري الدولي كوسيلة لتسوية منازعات الاستثمار، ومن هنا برز الدور المهم للاتفاقية التي عقدها البنك الدولي للإنشاء والتعمير في 18 مارس 1965 في واشنطن والتي أنشأ بموجبها مركزا دوليا متخصصا لفض منازعات الاستثمار بين الدول والمستثمرين الأجانب، والمعروف بالمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى المتعاقدة، وأيضا هناك غرفة التجارة الدولية بباريس(CCI)، وكذلك نجد اتفاقية نيويورك لسنة 1958 المتعلقة بالاعتراف وتنفيذ الأحكام التحكيمية الأجنبية، وغيرها من المراكز واتفاقيات التحكيم الدولية
كل هذه المراكز والاتفاقيات الدولية ساهمت في إيجاد أرضية للمستثمر تمكنه من الاستثمار خارج بلده بدون تردد، ولذلك حاولت مختلف التشريعات ومنها المغرب ملائمة قوانينها الداخلية مع هذه الاتفاقيات كما جاء به مثلا القانون 05-08 وخاصة في تنظيمه للتحكيم الدولي
وبالنظر إلى تعدد مراكز واتفاقيات التحكيم الدولية والتي لا يسعنا التطرق إلى أنظمتها جميعا في موضوعنا هذا، فإننا سنركز على اتفاقية واشنطن مع الإشارة في بعض الأحيان إلى بعض الاتفاقيات الأخرى وكذا مقتضيات القانون الدولي ذات الصلة بالموضوع
وتكمن أهمية موضوع التحكيم في منازعات الاستثمار الأجنبي –خاصة أمام مركز واشنطن- في اتساع مجال التحكيم في تسوية منازعات الاستثمار، إذ يكاد لا يخلو عقد أو اتفاقية استثمار ثنائية أو جماعية من إدراج اتفاق التحكيم كوسيلة ملائمة لتسوية هذه المنازعات
ومن هنا يطرح الإشكال التالي: ما مدى نجاح آلية التحكيم -أمام مركز واشنطن- في تسوية منازعات الاستثمار؟
وتتفرع عن هذا الإشكال الرئيسي تساؤلات أخرى، من هم أطراف منازعات الاستثمار؟ وما هي خصوصيات الإجراءات المتبعة لصدور الحكم التحكيمي؟ وما مدى فاعلية الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن؟
: وللإجابة عن هذه الإشكالات ارتأينا تقسيم هذا الموضوع إلى مبحثين
المبحث الأول: خصوصيات التحكيم في تسوية منازعات الاستثمار أمام مركز واشنطن
المبحث الثاني: الإجراءات المتبعة أمام المركز لصدور الحكم التحكيمي
المبحث الأول: خصوصيات التحكيم في تسوية منازعات الاستثمار أمام مركز واشنطن
يعتبر المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار من أكثر مراكز التحكيم تأثيرا على التوجهات الكبرى للقانون الدولي الاقتصادي عموما، والقانون الدولي للاستثمارات على وجه الخصوص، ويكمن الهدف من إنشاء مركز واشنطن في خلق جو من الثقة بين المستثمرين الأجانب والدول المضيفة، وكذا تشجيع تدفق رؤوس الأموال الأجنبية كخيار استراتيجي تبنته العديد من الدول النامية من أجل تنمية اقتصادها، الأمر الذي يعطي طبيعة خاصة ومنفردة لهذا النوع من التحكيم، خاصة من حيث الشروط التي ينبغي توافرها لانعقاد اختصاص مركز واشنطن سواء في أطراف اتفاق التحكيم أو في شكل هذا الاتفاق أو في طبيعة نزاعات الاستثمار موضوع هذا التحكيم
وبناء على ما سبق، سنتطرق في هذا المبحث إلى أطراف اتفاق التحكيم أمام مركز واشنطن في المطلب الأول، على أن نتناول في المطلب الثاني شكل اتفاق الأطراف على تحكيم المركز والطبيعة القانونية للنزاع
المطلب الأول : شروط اختصاص مركز واشنطن بالنظر في منازعات الاستثمار
بالرجوع إلى المادة 25 من اتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار فإن اختصاص المركز الدولي يمتد إلى أي نزاع قانوني ينشأ مباشرة عن أحد الاستثمارات، بين دولة من الدول المتعاقدة أو أحد الأقسام المكونة لها الذي تعينه تلك الدولة للمركز أو إحدى وكالاتها التي تعينها ، وبين أحد مواطني دولة أخرى متعاقدة
وهكذا فإن المادة أعلاه أكدت على وجود شرطين بخصوص الأشخاص أطراف المنازعة أمام المركز، ويتعلق الأمر بأن يكون أحد الطرفين دولة متعاقدة ( الفقرة الأولى )، وأن يكون الطرف الأخر مستثمرا أجنبيا ( الفقرة الثانية ( الفقرة الأولى : الدولة والمؤسسات التابعة لها كطرف في منازعات الاستثمار التي تعرض على التحكيم
ذهبت مجموعة من الاتجاهات الفقهية إلى اعتبار الدولة طرفا لا يجوز له أن يلجأ إلى التحكيم، إلا أن توجهات السياسات العمومية نحو جلب الاستثمارات الأجنبية سيجعل هذه الآراء تتغير ويحل محلها اتجاه آخر يمنح الدولة كطرف ذو طابع عام أهلية اللجوء إلى التحكيم ، وإن كان ذلك بشروط محددة إذا تعلق الأمر بوجودها كطرف في منازعات الاستثمار (أولا) ، إلا أن الدولة ليست هي الطرف الوحيد الذي يكون في منازعات الاستثمار التي تعرض على التحكيم ، إذ أن هناك مؤسسات تابعة لها تبرم بدورها عقودا مع أشخاص مستثمرين خواص وتضمنها شرطا بعرض النزاع الناشئ عنها على أنظار التحكيم .( ثانيا
( أولا : الدولة كطرف في منازعات الاستثمار التي تعرض على أنظار التحكيم
تعتبر الدولة شخصا من أشخاص القانون العام حيث هدفها هو تحقيق النفع العام ، لذلك فهي تتمتع بامتيازات السلطة العامة التي تتمثل في سلطة إصدار قرارات إدارية وسلطة التنفيذ الجبري
وحتى تتمكن الدولة من اللجوء إلى التحكيم في مركز واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار بين الدولة المضيفة للاستثمار والمستثمر الأجنبي ، يجب أن تكون هذه الدولة من الدول المتعاقدة في الاتفاقية
ولقد نشب الخلاف فيما إذا كان يجوز للدول غير المتعاقدة استعمال التسهيلات التي يقدمها المركز بصفة وقتية أو عارضة . ولقد استقر العمل على إمكان منح الدول غير المتعاقدة هذه الرخصة دون إعطائها الحق في الوقوف كطرف في تحكيم المركز
ويثور التساؤل عن متى تصبح الدولة طرفا متعاقدا في حكم الاتفاقية ؟
وبهذا الخصوص تنص المادة 68 من الاتفاقية على أنها تعتبر نافذة بالنسبة لكل دولة تودع وثائق تصديقها أو قبولها أو موافقتها على المعاهدة بعد ثلاثين يوما من هذا الإيداع
وعندما يقدم طلب التحكيم إلى المركز ، فإنه يتعين على السكرتير العام للمركز فحص ما إذا كان الطلب قد تم تقديمه بمعرفة دولة متعاقدة ، بحيث يجب عليه رفض تسجيل الطلب إذا ما قدم بمعرفة دولة غير متعاقدة
ولقد اقترح البعض أن يكون الميعاد المقرر لاعتبار الدولة المتعاقدة ، هو ميعاد ملء طلب التحكيم لدى السكرتير العام للمركز ، على أنه من الأفضل للدولة أن تكون قد أحذت خطوات الانضمام للاتفاقية عند التقديم لطلب التحكيم حتى يمكن ضمان استفادتها من خدمات المركز
وفيما يتعلق بتاريخ الانضمام للاتفاقية أثيرت مشكلة واحدة في قضية هوليداي إنز المتعلقة بالنزاع بين حكومة المغرب وشركة هوليداي إنز الأمريكية
فبعد النزاع الذي نشب بين الأطراف ، تقدمت الشركة التابعة لهوليداي إنز بطلب تحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ، ودفعت الحكومة المغربية بعدم اختصاص المركز ، لأن كل من دولتي المغرب وسويسرا عند توقيع عقد الاستثمار لم تكن طرفا في الاتفاقية المنشئة للمركز ، وإن كانتا قد انضمتا قبل تقديم المنازعة إلى المركز ، وقد اعتبرت حكومة المغرب أن التاريخ الذي يعتد به لعضوية الدولة في الاتفاقية هو تاريخ عقد الاستثمار نفسه والذي يحتوي على شرط التحكيم ، فيما اعتبرت شركة هوليداي إنز أن التاريخ الذي يعتد به هو تاريخ تقديم طلب التحكيم إلى المركز
وقد رفضت المحكمة ما جاءت به الحكومة المغربية من دفوع، معتبرة أن الإتفاقية سمحت للأطراف بتعليق شرط التحكيم حتى حدوث شرط معين كالانضمام للإتفاقية أو استنفاذ السبل الأخرى سواء القضائية أو الإدارية لحل النزاع ، وبأن التاريخ الذي يمكن فيه اعتبار الدولة متعاقدة ، وفقا لما يفهم من نصوص الاتفاقية ، هو التاريخ الذي يتحقق فيه رضاء الأطراف باللجوء إلى تحكيم المركز ، وقيام الدولة بطلب التحكيم من المركز
من خلال هذا الحكم يمكن القول أن التاريخ البات لاعتبار الاتفاقية نافذة في دولة ما ، وأن هذه الدولة أصبحت دولة متعاقدة ، هو التاريخ الذي يقدم خلاله طلب التحكيم إلى المركز
وتجدر الإشارة إلى أن الاتفاقية لم تصادق عليها كل الدول ، بل نجد دول من أمريكا اللاتينية استغنت عن التوقيع على اتفاقية واشنطن ، وذلك على اعتبار أن قوانينها تمنع الدولة وأشخاص القانون العام من اللجوء إلى التحكيم
وبخصوص المغرب فإنه صادق على اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار سنة 1966 وبالتالي فالدولة المغربية لها أهلية التحكيم أمام مركز واشنطن
إذن فالدولة غير المتعاقدة لن تكون لها إمكانية طلب التحكيم أمام مركز واشنطن لذلك فإنه من الواجب أن تنضم كافة الدول لهذه الاتفاقية ، وذلك لتشجيع الاستثمارات الأجنبية ، التي تساعد وتساهم في الدفع بالتنمية إلى درجة متقدمة
وبذلك فإن المنع الذي أقرته بعض الدول على أن توقع على الاتفاقية ، يبدو أمرا لا يخدم مصالح التجارة الدولية التي تعرف الآن حركة واسعة ، فالتوقيع على الاتفاقية تقرير لأهلية الدولة في إبرام عقود تجارية دولية ، تتضمن شرط التحكيم ، الشيء الذي يشجع المستثمر الأجنبي على الاستثمار بهذه الدولة
وبالتالي فإن أي دولة غير متعاقدة لا يمكن لها اللجوء إلى تحكيم مركز واشنطن حيث يشرط من أجل اللجوء إلى تحكيم المركز أن تكون الدولة متعاقدة كما يجب أن تكون الاتفاقية نافذة في حق الدولة التي ينتمي إليها المستثمر الأجنبي
ثانيا : المؤسسات التابعة للدولة كطرف في منازعات الاستثمار التي تعرض على أنظار التحكيم
إن اتفاقية واشنطن لسنة 1965 لم تجعل الدولة وحدها هي التي من حقها أن تطلب التحكيم أمام مركز واشنطن ، وإنما نصت على أن المؤسسات التابعة لها والمعنية من طرفها ، لها الحق أيضا في طلب التحكيم أمام المركز ، أي أن اختصاص هذا الأخير لا يقتصر على الدول المتعاقدة فقط وإنما يمتد إلى المؤسسات والوكالات التابعة لهذه الدول
غير أنه وإن كانت اتفاقية واشنطن قد خولت للمؤسسات التابعة للدولة والمعينة من طرفها أحقية التحكيم أمام المركز ، فإنما لم تحدد المقصود بهذه المؤسسات التابعة للدولة
والغاية من تحديد المقصود بالمؤسسات التابعة للدولة ، هي محاولة إيجاد تفرقة بين المؤسسات والمرافق التي تكون تابعة للدولة وتدخل في حكمها ، وهي بالتالي التي يكون لها الحق في طلب التحكيم أمام المركز ، أما المؤسسات التي تتمتع باستقلال عن الدولة فإنه ليس لها الحق في طلب التحكيم أمام المركز حيث بإمكانها والحالة هذه تلجأ إلى التحكيم أمام مؤسسة تحكيمية أخرى ، غير مركز واشنطن لتسوية خلافات الاستثمار
وفي هذا الإطار تعددت المعايير التي قال بها الفقه للقول بتبعية المؤسسات للدولة من عدمها، حيث ذهب بعض الفقه إلى الأخذ بمعيار تمتع المشروع العام بالشخصية القانونية المستقلة عن الدولة ، وفي هذا المعيار إذا كان المشروع العام يتمتع بشخصية قانونية مستقلة عن الدولة ، فإنه يخضع للقضاء الوطني ، أما إذا كان هذا المشروع لا يتمتع بالشخصية القانونية المستقلة عن الدولة وإنما يندمج في شخص الدولة ، فهو يتمتع بالحصانة القضائية ، وبالتالي لا يخضع لقضاء الدولة الأجنبية ، وبمواجهة هذا المعيار نشأ معيار آخر ومعاكس يعتبر أن المشروع العام التابع للدولة يتمتع بالحصانة القضائية بغض النظر عن تمتعه بشخصية قانونية مستقلة عنها ، على اعتبار أنه يعتبر مرفقا من مرافق الدولة ، وأن التصرفات التي يجريها تخدم مرفق عام من مرافق الدولة
وفي هذا الصدد يعتبر بعض الفقه أن هذا المعيار القائم على أساس التصرفات التي يجريها المشروع العام يتأثر بالاعتبارات السياسية كثيرا ، على اعتبار أن المشكلة التي يواجهها القاضي لتقرير الحصانة من عدمها ، لا تتوقف فقط على معرفة ما إذا كان التصرف محل المنازعة تصرف من تصرفات القانون العام ، أو من تصرفات القانون الخاص ، فعلى القاضي أن يقدر في البداية الأثر الذي سوف يتحقق على صعيد القانون الدولي العام ، وعلى علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر ، إذا قامت دولة القاضي بتقرير اختصاص محاكمها على التصرفات الصادرة من الدولة أو من إحدى الأجهزة التابعة لها ، وهذا الأمر يظهر بمقارنة الأحكام الصادرة في مثل هذه الحالات
وهكذا يمكن القول بأن المؤسسة إذا كانت تتمتع بشخصية قانونية مستقلة عن الدولة فإنها لا تعتبر مؤسسة تابعة لها ، إلا أن هذا المعيار غير كاف بحد ذاته ولا يمكن الاعتماد عليه منفردا لتحديد المؤسسات التابعة للدولة ، حيث توجد مؤسسات رغم أن الدولة منحتها استقلالا في شخصيتها القانونية وذمتها المالية فهي مع ذلك تعتبر من مؤسسات الدولة ، وهذا ما أكد عليه القرار التحكيمي الصادر من مركز واشنطن ، والذي صدر بناء على إثارة المغرب عدم اختصاص هذا المركز في قضية الشركة الإيطالية وشركة طرق السيارة بالمغرب ، في إطار هذه القضية احتج الطرف المغربي بالطابع الخاص للشركة المذكورة والتي تم تأسيسها في شكل شركة مجهولة الاسم والمتمتعة بذمتها المالية المستقلة وعلى اعتبار أن مساهمة الدولة في رأسمال الشركة لا يفقدها استقلاليتها عنها
إلا أن القرار التحكيمي ، رد على هذا الدفع واعتبره غير صائب وقضى بأنه تكون تابعة للدولة كل شركة تجارية تهيمن عليها الدولة أو تراقبها مباشرة أو بواسطة مؤسساتها ، وأحال القرار على اجتهاد تحكيمي سابق يربط المراقبة بمعيارين ، أحدهما هيكلي أو عضوي والذي يعني توافر مجموعة من العناصر المتكاملة والتي تساعد في الفصل في مسألة تبعية الجهاز للدولة ، وهذه العناصر تستشف من خلال النظام الأساسي أو القانون أو القرار أنشأ هذا الجهاز ، ومن هذه العناصر عنصر رأس المال في الجهاز وكيفية إدارته والأنظمة القانونية التي تحكم تصرفاته والوسائل المالية لتمويله . والآخر وظيفي يتصل بغايتها وأهدافها
وبما أن الدولة المغربية تهيمن على رأس المال ، وعلى مجلس إرادتها وبما أن غايتها تكمن في إحداث طرق السيارة واستغلالها والعناية بها بواسطة امتياز فقد انتهى القرار إلى اعتبارها شركة دولة تتصرف باسم الدولة
انطلاقا مما سبق يتبين أن تقدير أو تحديد مدى تبعية الجهاز أو المؤسسة المتعاقدة مع الطرف الأجنبي للدولة يتطلب وجود أكثر من عامل أو معيار للتأكد من هذه التبعية ، فالأشكال التي تتخذها هذه الأجهزة أو المؤسسات متعددة ومتنوعة ويجب أن لا ننسى السيطرة التي تمارسها الدولة على هذه الأجهزة سواء بنفسها أو عن طريق جهاز وسيط ، فهذه المؤسسات أنشئت خصيصا لتحل محل الدولة في إطار العلاقات الاقتصادية التجارية الدولية ، وتتصرف لحساب الدولة ولصالحها
وبقي أن نشير إلى أنه يمكن للمركز مد اختصاصه حول النزاع ، فلابد من مجموعة من الشروط والتي تنص عليها المادة 25 من الاتفاقية وتتمثل هذه الشروط التي تسمح للمؤسسات التابعة للدولة باللجوء إلى تحكيم المركز في :ما يلي
1 ـ أن يكون هذا الجهاز أو هذه الوكالة معينة للمركز من قبل الدولة المتعاقدة
2 ـ أن يكون هذا الجهاز أو هذه الوكالة تابع لدولة متعاقدة
3ـ أن يلتقي رضا هذا الجهاز أو هذه الوكالة باللجوء إلى تحكيم المركز ، مع قبول الدولة بمثل هذا الأمر ، إلا إذا أعلنت هذه الأخيرة للمركز عدم وجود حاجة إلى قبول مسبق منها
وموافقة الدول المتعاقدة على إخضاع المؤسسة أو الهيئة التابعة لها لاختصاص المركز يمكن أن تأخذ أشكال عديدة، فهذه الموافقة يمكن أن تكون في شكل شرط موجود في اتفاق مع الدولة المتعاقدة بمقتضاه توافق على إمكانية تقديم المنازعات الناشئة إلى المركز بواسطة هذه المؤسسة، كما يمكن أن تأخذ الموافقة شكل وثيقة تحتوي الرضا على التقديم إلى المركز بواسطة المؤسسة، وصحة هذه الموافقة تخضع لرقابة المركز لأنها تمس اختصاصه بنظر المنازعة
وبخصوص هذه الموافقة يثار التساؤل حول ما إذا كان يمكن للدولة سحب موافقتها على إمكانية لجوء المؤسسة أو الوكالة التي حددتها للمركز سابقا ، إلى المركز بهدف التحكيم ، فهل الأمر ممكن ؟
يجيب أحد الفقه على هذا التساؤل بقوله يمكن للدولة أن تسحب موافقتها على خضوع المؤسسة أو الوكالة التابعة لها لاختصاص المركز في أي وقت، وذلك لأن موافقة الدولة ما هي إلا تصرف بإرادة منفردة صادر عن الدولة المتعاقدة ، إلا أن هذه الإمكانية تصطدم بمبدأ حسن النية الذي يقف حائلا بوجه هذه الحرية المطلقة ، كونه يعتبر أن هذه الموافقة ملزمة ، ولا يجوز سحبها إذا كان الطرف الآخر في عقد الاستثمار قد تصرف على أساس وجود هذه الموافقة
والطرف الآخر في عقد الاستثمار في هذه الحالة ، وكما اشترطت اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار هو مستثمر أجنبي، ولكن هذا الأخير يجب أن يتمتع بشروط معينة حتى يتمكن من اللجوء إلى تحكيم المركز
الفقرة الثانية : المستثمر الأجنبي كطرف في منازعات الاستثمار المعروضة على التحكيم
أمام أزمة الثقة بين المستثمرين الأجانب والدول المضيفة للإستثمار وإزاء خوف المستثمرين من المخاطر التي قد تلحق باستثماراتهم ، والناتجة عن بعض التدابير الإدارية والسياسية والتشريعية التي قد تتخذها الدولة المضيفة للاستثمار ، فقد منحت اتفاقية واشنطن هؤلاء المستثمرين الحق المباشر باللجوء إلى التحكيم الذي يرعاه المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، دون أن يكونوا بحاجة إلى تدخل دولتهم أو إذنها في الإجراءات التحكيمية المتبعة، وذلك في المادة 25 من الاتفاقية والتي اعتبرت أن اختصاص المركز يمتد ليشمل أي نزاع قانوني بين دولة من الدول المتعاقدة أو أحد الأقسام التابعة لها، وبين أحد مواطني دولة أخرى متعاقدة ، وبصراحة هذه المادة فإن عبارة " مواطني إحدى الدول الأخرى المتعاقدة " تضم الأشخاص الطبيعيين وكذلك المعنويين
وبالتالي فإن الطرف الآخر في تحكيم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار يجب أن يكون طرفا مستثمرا أجنبيا من دولة أخرى سواء كان هذا المستثمر شخصا طبيعيا أو شخصا معنويا
أولا : المستثمر الأجنبي : شخص طبيعي
عرفت المادة 25 في الفقرة الثانية منها الشخص الطبيعي الذي يعتبر من مواطني دولة أخرى تابعة كما : يلي
" أي شخص طبيعي متعاقد يحمل جنسية دولة متعاقدة غير الدولة الطرف في النزاع ، في التاريخ الذي وافق فيه الطرفان على عرض النزاع للتوفيق أو طرحه على التحكيم ، وكذلك أيضا في التاريخ الذي سجل فيه طلب التوفيق أو التحكيم طبقا للفقرة 3 من المادة 28 على أن هذه العبارة لا تشمل أي شخص كان يحمل أيضا في أي من التاريخين جنسية الدولة الطرف في النزاع
وبالتالي فإن اتفاقية البنك الدولي التي تم بمقتضاها إنشاء مركز واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار ، لم تخول لكل شخص طبيعي مستثمر حق اللجوء إلى التحكيم ضد الدولة المضيفة للاستثمار ، وإنما اشترطت شروطا لابد من توفرها حتى يكون لهذا الشخص الطبيعي إمكانية طلب التحكيم أمام المركز ، الذي يعتبر الجهة الوحيدة المتخصصة في تسوية خلافات الاستثمار التي تنشأ بين الدول المتعاقدة والمستثمرين الأجانب سواء كانوا أفرادا أو شركات خاصة
وتتجلى هذه الشروط التي ينبغي توفرها في المستثمر الأجنبي الشخص الطبيعي من أجل أن يتمكن من الخضوع إلى تحكيم المركز في أن يتمتع هذا المستثمر بجنسية إحدى الدول الموقعة على الاتفاقية ، وأن تكون له جنسية إحدى الدول الموقعة على الاتفاقية في تاريخين محددين لا يغني أحدهما عن الآخر ، والشرط الأخير يتمثل في أن لا تكون له جنسية الدولة التي تعتبر طرفا في النزاع معه
: أـ أن تكون للمستثمر الأجنبي الشخص الطبيعي جنسية إحدى الدول الموقعة على الاتفاقية
بمعنى أن تكون هناك رابطة قانونية وسياسية بينه وبين إحدى الدول المتعاقدة ، وهو ما يعني أن الشخص الذي لا جنسية له لا يستطيع اللجوء إلى تحكيم المركز ، وإن كانت ترى إحدى الباحثات أن هذا الشرط سوف لن يخدم الأشخاص الطبيعية التي تستثمر في دول أخرى ، إذا كانت الدولة التي ينتمون إليها رفضت الانضمام إلى الاتفاقية ، وهذا لن يخدم التجارة الدولية التي عرفت ازدهارا كبيرا ، مادام هذا البند يحرم الأشخاص الذين لم تصادق الدول المنتمين إليها بجنسيتهم على الاتفاقية من حق اللجوء إلى التحكيم باعتباره من الضمانات المهمة التي تحمي المستثمر الأجنبي
ولقد أثار شرط الجنسية الذي تشترطه اتفاقية واشنطن العديد من الإشكالات أول هذه الإشكالات هي أنه إذا كان يتم تعيين جنسية الشخص الطبيعي طبقا للقواعد العامة للقانون الدولي بمقتضى القانون الداخلي الخاص بكل دولة ، فإنه هل سيكون المركز الدولي لتسوية خلافات الاستثمار مقيدا بالقرار الوطني المانح للجنسية للشخص الطبيعي أم لا ؟
وقد أجاب أحد الفقه على ذلك بأنه إذا كان من المتفق عليه أن المحكم ملزم بالقرار الصادر عن السلطات العمومية المختصة بمنح الجنسية ، أي أنه لا يستطيع مراقبة مشروعية أو عدم مشروعية منح أو رفض الجنسية ، إلا أن هذا لا يعني أن المحكم يمنع عليه مراقبة ما إذا كانت الشروط المتطلبة التي يستلزمها القانون الداخلي لمنح الجنسية متوافرة في القرار المحتج به أمامه
وهناك إشكال آخر يثار بخصوص جنسية الشخص الطبيعي ، ويتعلق بحالة ما إذا كان الشخص الطبيعي هذا يتوفر على أكثر من جنسية دولة متعاقدة ، فما المعمول في هذه الحالة ؟
في هذه الحالة أقر أحد الفقه بأنه لا مشكلة إذا كانت الدولتان اللتان يتمتع المستثمر بجنسيتهما دولتين متعاقديتن في الاتفاقية إذ لا يثار الشك والحالة هذه في حق المستثمر في التقدم بطلب التحكيم أمام المركز في هذا الفرض ، إلا أن الصعوبة تثار بالنسبة للشخص الطبيعي الذي يتمتع بجنسية دولة أخرى العضو في الاتفاقية
بمعنى أن الشخص الطبيعي المنتمي إلى جنسية دولة طرف في النزاع وفي نفس الوقت حامل لجنسية دولة أخرى متعاقدة لا يمكن أن يكون طرفا في تحكيم المركز
وعموما فإن شرط الجنسية الذي اشترطته الاتفاقية يهدف إلى تجنب وتفادي أية شروط اصطناعية يمكن من خلالها للشخص الطبيعي التوصل إلى اختصاص المركز كأن يقوم مثلا بتغيير جنسيته لكي يصبح داخلا في اختصاص المركز
:ب ـ أن تكون للمستثمر الأجنبي الشخص الطبيعي جنسية إحدى الدول المتعاقدة في تاريخين محددين
ويتعلق الأمر بالتاريخ الذي اتفق الأطراف لحل نزاعاتهم عن طريق التحكيم لدى المركز والتاريخ الذي سجل فيه طلب التحكيم لدى أمانة المركز العامة
وهكذا إذا توافرت الجنسية في أحد التاريخين فقط فإن ذلك يؤدي إلى نزع الاختصاص عن مركز واشنطن ، لأن الجنسية لم تتوفر له في التاريخين معا
وبالتالي فإنه من الضروري أن يمتد التمتع بجنسية الدولة المتعاقدة ما بين التاريخين والهدف من ذلك هو استبعاد تجنيس المجاملة التي يمكن أن تحدث لجعل المستثمر الذي ينتمي إلى دولة غير متعاقدة يستفيد من خدمات المركز ، بعد أن فقد جنسية الدولة المتعاقدة الأولى التي أبرم في ظلها اتفاق التحكيم مع الدولة المضيفة للإستثمار
: ج ـ أن لا تكون للشخص الطبيعي المستثمر جنسية الدولة التي تعتبر طرفا في النزاع معه
بمعنى إذا كان الشخص الطبيعي المستثمر يحمل جنسية الدولة الطرف في النزاع ، فإنه لا يمكن قبوله طرفا في تحكيم المركز ولو كان يحمل في نفس الوقت جنسية دولة أخرى متعاقدة، فالاتفاقية بإحداثها إجراءات للتحكيم بين المستثمر الخاص والدولة المضيفة ، لم ترد إحلال هذه الوسيلة محل وسائل التسوية الداخلية في ما بين الدولة ورعاياها
علاوة على ما تقدم فإن الشخص الطبيعي يجب أن يذكر صراحة عند تقدمه للمركز أنه لا يتمتع بجنسية الدولة الأولى الطرف في النزاع
بينما يكفي لتعتبر محكمة المركز مختصة أن يتمتع الشخص بجنسية أية دولة متعاقدة ، حتى ولو كان يتمتع بجنسية دولة أخرى ، سواء كانت متعاقدة أم غير متعاقدة ، ولكن المهم ألا تكون هذه الدولة الأخرى هي الطرف في النزاع ، والسبب في ذلك هو أن أهم ميزة من مميزات التحكيم في المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ، عدم وحدة جنسية أطراف النزاع
وفي ظل قواعد القانون الدولي ، فإن قانون الجنسية المدعى بها ، هو الذي يحدد ما إذا كان الطالب يتمتع بجنسية هذه الدولة أم لا . وفي الحالات التي يسكت فيها القانون الوطني ، فإن المحاكم تكون لها سلطة الفصل في موضوع الجنسية ، وغالبا ما تأخذ المحاكم في هذا الخصوص بما استقرت عليه محكمة العدل الدولية في قضية " نوتم " من أن الجنسية عبارة عن رابطة قانونية أساسها الصلة الواقعية بمجتمع معين ، أي أن المحاكم يمكن أن تأخذ بمعيار الصلة الفعلية لتقرير موضوع الجنسية
ثانيا : المستثمر الأجنبي : شخص معنوي
يتمثل الهدف الأساسي لاتفاقية واشنطن ، في مساعدة المجتمع الدولي على تحقيق التنمية والتطور الاقتصاديين ، حيث تم وضعها من أجل توفير مناخ ملائم للاستثمارات الدولية ، حسب ما ورد في تصديرها ، الذي نص على أنه " مراعاة لضرورة التعاون الدولي لأجل التنمية الاقتصادية والدور الذي يمكن أن تلعبه الاستثمارات الخاصة الدولية "وإدراكا لهذا الهدف فإن الاتفاقية نصت على شروط ينبغي توفها في المستثمر الخاص الشخص المعنوي حتى يمكنه اللجوء إلى التحكيم ، وتتميز هذه الشروط بالمرونة لأنها وإن كانت تشددت مع المستثمر الخاص الشخص الطبيعي ، فهذا لا أهمية له من الناحية العملية ، لأن معظم إن لم تكن كل الاستثمارات التي تتم في البلدان النامية يقوم بها أشخاص معنويون وخصوصا شركات الأموال
وهذه الشروط أشارت إليها الفقرة الثانية من المادة 25 من الاتفاقية والتي تنص على ما يلي : " كل شخص معنوي كانت له جنسيته دولة متعاقدة ، غير الدولة الطرف في النزاع ، في التاريخ الذي وافق فيه الطرفان على عرض النزاع للتوفيق ، أو طرحه على التحكيم ، وأيضا أي شخص معنوي كانت له في ذلك التاريخ جنسية الدولة الطرف في النزاع ، لكن اتفق الطرفان على اعتباره بمثابة رعية لدولة متعاقدة أخرى ، بسبب خضوعه لرقابة مصالح أجنبية"
: من خلال النص أعلاه يظهر أن شروط لجوء المستثمر الشخص المعنوي إلى التحكيم ، تتمثل في ما يلي
: أـ تمتع الشخص المعنوية بجنسية دولة متعاقدة في الاتفاقية غير الدولة الطرف في النزاع
بخصوص هذا الشرط فإن تمتع الشخص المعنوي بجنسية الدولة المتعاقدة ليس إلزاميا إلا في التاريخ الذي اتفق الأطراف على إخضاع النزاع إلى تحكيم المركز ، على خلاف ما هو عليه بالنسبة للشخص الطبيعي الذي يقتضي أن بتوفر فيه هذا الشرط وأن يستمر في توفره إلى تاريخ تسجيل هذا التحكيم
وانطلاقا مما سبق يتبين أن الاتفاقية تساهلت بخصوص الشرط السابق ذكره ، مع المستثمر الخاص الشخص المعنوي ، نظرا لكون هذا الأخير هو الذي يقبل على الاستثمار بكثرة عبر الحدود ، غير أن هناك من الباحثين من يرى أن هناك حاليا من المستثمرين الأشخاص الطبيعيين من لديه إمكانيات مادية وتقنية تضاهي أو تفوق إمكانات الأشخاص المعنوية ، لذلك ينبغي إقرار المساواة في هذه النقطة بين المستثمرين سواء كانوا أشخاص طبيعيين أو معنويين ، وذلك تشجيعا للتجارة الدولية عبر الحدود مما يحقق التنمية والتعاون الاقتصاديين اللذان تهدف إليهما الاتفاقية
ب ـ الشرط الثاني الذي ينبغي توفره في الشخص المعنوي ، حتى يلجأ إلى التحكيم هو أن هناك اتفاق بينه وبين الدولة الطرف في النزاع ، يقضي باعتبار هذا الشخص ينتمي بجنسيته إلى دولة متعاقدة أخرى إذا كان يخضع إلى رقابة تمارسها عليه مصالح أجنبية
هذا وقد احتوى مشروع الاتفاقية نصا يقضي بأن الأشخاص الاعتباريين والتي لها جنسية الدولة المضيفة للاستثمار ، يمكن أن تعتبر " مواطن أو ذات جنسية لدولة أخرى متعاقدة فقط على أساس الاتفاق بين الأطراف
وتتعلق هذه المسألة ، بالحالة التي يكون فيها المستثمر الشخص المعنوي ينتمي بجنسيته إلى الدولة الطرف في النزاع ، حيث تساهلت معه هنا اتفاقية واشنطن في اللجوء إلى التحكيم، عكس الشخص الطبيعي إذ اشترطت أن يبرم اتفاقا مع الدولة الطرف في النزاع يقضي باعتباره رعايا دولة متعاقدة أخرى إذا كان تحت رقابة مصالح أجنبية
وتجدر الإشارة إلى أن شرط الاتفاق ، يثير إشكالا حول ما إذا كان يتطلب أن يكون اتفاقا صريحا أم اتفاقا ضمنيا ؟
فالاتفاقية تحدثت عن اتفاق بين الشخص المعنوي والدولة الطرف في النزاع ، على اعتباره ينتمي بجنسيته إلى دولة أخرى حتى يكون بإمكانه اللجوء إلى التحكيم إذا كانت هناك مصالح أجنبية تمارس الرقابة عليه ، ولم تبين هل يشترط أن يكون هذا الاتفاق اتفاقا صريحا أم اتفاقا ضمنيا؟
في هذا الإطار اتجهت هيئات التحكيم إلى اتجاهين : اتجاه أول اشترط الاتفاق الصريح على ثبوت الجنسية كما في قضية هوليداي إنز ضد المغرب ، واتجاه ثان اكتفى بأن يكون الاتفاق ضمنيا بأن تكون هذه الجنسية مستفادة من الظروف المحيطة كما في قضية أمكواسيا ضد أندونيسيا
بناء على ما تقدم نرى أن اتفاقية واشنطن تساهلت كثيرا مع الشخص المعنوي المستثمر مقارنة مع الشخص الطبيعي المستثمر ، سواء فيما يتعلق بتاريخ انتمائه إلى جنسية دولة أخرى متعاقدة ، أو في ما يتعلق باشتراط اتفاق فقط بينه وبين الدولة الطرف في النزاع
غير أنه بالرغم من هذه التسهيلات التي يتمتع بها الشخص المعنوي في ظل اتفاقية واشنطن ، فإنه هناك صعوبات تتمثل أساسا في صعوبة تثور بالنسبة للمشروعات المشتركة التي توجد فيها أقلية أو مساواة لرأس المال ، وفي هذه الأحوال يجب تقدير فكرة الرقابة ففي كثير من الأحوال ، فإن المشاركة في رأس المال وحدها لا تصبح معيارا محددا لفكرة السيطرة ، حيث يمكن لطرف له أقلية المشاركة المالية أن تحكم في المشروعات بسبب تمتعه بسيطرة من الناحية الإدارية أو الفنية
وبالتالي فعدم وضع تعريف محدد لما يشكل السيطرة الأجنبية ، يعطي الحق للأطراف في عقد الاستثمار الحرية في تحديد ما قد يشكل هذه السيطرة من الناحية المالية أو الإدارية أو من الناحية الفنية ويعطي لمحكمة التحكيم أن تبت في هذه المسألة بسلطة واسعة إذا عرضت عليها
لا يكفي لاختصاص مركز واشنطن بنظر النزاعات التي تعرض عليه، توافر الشروط التي تتطلبها الاتفاقية في صفة أطراف النزاع، بل يجب أن يكون هناك اتفاق صريح بين الأطراف وأن يعبروا عن إرادتهم في اللجوء إلى التحكيم، حيث يعتبر رضاء الأطراف باللجوء للتحكيم أمام مركز واشنطن هو الأساس لاختصاصه، أي أنه لا يمكن أن ينظر المركز في النزاع دون أن يوافق طرفا النزاع على عرضه أمامه، غير أن المركز أظهر توسيعا كبيرا على شكل اتفاق الأطراف في اتجاه عقد الاختصاص لنفسه ولو بدون وجود الاتفاق بين الأطراف على الأقل بالشكل التقليدي. كما أن للتحكيم أمام مركز واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار خصوصيات تظهر على مستوى طبيعة النزاعات المعرضة عليه
وعليه، سنتناول في الفقرة الأولى شكل اتفاق الأطراف على التحكيم أمام مركز واشنطن، على أن نخصص الفقرة الثانية للحديث عن طبيعة النزاعات المعروضة على مركز واشنطن
الفقرة الأولى: شكل اتفاق الأطراف على التحكيم أمام مركز واشنطن
لقد أصبح التحكيم أمام مركز واشنطن متميزا عن المفهوم التقليدي للتحكيم، إذ أن الاختصاص بهذا النوع من التحكيم مستمد من معاهدات واتفاقيات ثنائية (bit’s) أو جماعية (mit’s) في حين مصدر التحكيم الدولي هو اتفاقات خاصة
وبالرجوع إلى الفقرة الأولى المادة من 25 من اتفاقية واشنطن التي تنص على أنه "يمتد اختصاص المركز إلى المنازعات ذات الطابع القانوني التي تنشأ بين دولة متعاقدة وبين أحد رعايا دولة متعاقدة أخرى والتي تتصل اتصالا مباشرا بأحد الاستثمارات، بشرط أن يوافق أطراف النزاع كتابة على طرحها أمام المركز، وعندما يعطي الطرفان موافقتهما لا يجوز لأحدهما أن يسحب موافقته بإرادته المنفردة". فمن خلال هذه المادة يعتبر رضا الأطراف باللجوء للتحكيم أمام مركز واشنطن هو الأساس لاختصاصه، أي أنه لا يمكن أن ينظر المركز في النزاع دون أن يوافق طرفا النزاع على عرضه على المركز، وبالإضافة إلى ذلك فإنه عندما يقبل الطرفان اللجوء إلى تحكيم المركز فإن هذا الرضا لا يمكن لأي من الطرفين الرجوع عنه، حتى ولو كان أحد الاطراف المتنازعة قد انسحب من الاتفاقية، فلا يؤثر في صحة الرضا انسحاب الدولة المستقبلة للاستثمار أو دولة المستثمر من الاتفاقية
غير أن الاتفاقية اشترطت أن تتم الموافقة كتابة دون تحديد شكل معين للكتابة، فالعبرة بدلالتها الواضحة على الرضا باللجوء إلى تحكيم المركز، إذ يجوز للأطراف اختيار أحد شروط التحكيم النموذجية التي يتم إعدادها من قبل المركز، أو التعبير عن رضاهم في اتفاق الاستثمار سواء في صورة شرط أو عقد التحكيم، كما قد يأخذ رضا الدولة باختصاص المركز شكل معاهدة ثنائية أو جماعية، وقد تسعى بعض الدول إلى جلب المزيد من الاستثمارات من خلال النص في تشريعاتها الداخلية على قبول اللجوء إلى المركز
هذا التعدد في أسس ثبوت الاختصاص لمركز واشنطن يعكس مدى التوجه الجديد لهيئات تحكيم المركز من أجل خلق الاختصاص لنفسها ولو بدون وجود الاتفاق، حيث يكتفي لتقرير اختصاصه بنظر النزاع بوجود نص يشير إلى التحكيم، إما في تشريع وطني للاستثمار في الدولة المضيفة،أو في اتفاقية للاستثمار سواء كانت ثنائية أو متعددة الأطراف، وذلك إذا ما لجأ المستثمر إلى طلب التحكيم أمام المركز معتبرة التراضي موجود في هذه الحالة، لأن الدولة حين نصت في تشريعها الوطني أو في اتفاقية الاستثمار على إحالة نزاعاتها مع المستثمرين الأجانب إلى تحكيم المركز، تكون قد أعطت موافقتها ورضاها في قبول التحكيم، وأن المستثمر يعبر عن قبوله بتقديمه لطلب التحكيم وذلك استنادا إلى أن تقرير المديرين التنفيذيين يذهب إلى أن الاتفاقية لا تفرض أن يتم التراضي في عمل قانوني واحد لكي ينعقد الاختصاص للمركز
ومن الآثار المترتبة على هذه الأساليب الجديدة إحالة المنازعات بشكل منفرد من قبل المستثمر للتحكيم أمام هيئة تحكيم مركز (ICSID) بواشنطن، على أساس تشريعات الاستثمار أو اتفاقيات حيث لا يحتاج المستثمر إلى وجود اتفاق تحكيم، أو حتى علاقة تعاقدية مع المدعى عليه، وحيث تكون الدولة المدعى عليها ألزمت بالتحكيم دون أن تكون قادرة على بدء التحكيم، أو حتى تقديم دعوى مقابلة، وهو ما يطلق عليه التحكيم بدون اتفاق
والمشرع المغربي من خلال القانون رقم 18-95 المتعلق بميثاق الاستثمار نص في الفقرة الثانية من المادة 17 على أنه " يمكن أن تتضمن العقود المشار إليها أعلاه بنودا تقضي بفض كل نزاع قد ينشأ بين الدولة المغربية والمستثمر الأجنبي بخصوص الاستثمار وفقا للاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب في ميدان التحكيم الدولي"، والمبدأ أن البند الذي يحتويه قانون الاستثمار الوطني للدولة المغربية يمثل مجرد إيجاب من جانبها ولا يتحول إلى رضاء باللجوء إلى التحكيم أمام المركز إلا إذا أعلن المستثمر الأجنبي عن رغبته في الاستفادة من هذا الشرط
وأتيحت الفرصة للمحاكم لإتباع هذا الأسلوب في جلب الاختصاص للمركز لأول مرة استنادا على الإيجاب العام للدولة المضيفة للاستثمار المضمن في قانونها الداخلي في قضية هضبة الأهرام، فقد تقدمت شركة (SPP) Soutern pacific properties limited بطلب للتحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ليتولى حل نزاعها مع الحكومة المصرية، وإلزام هذه الأخيرة بدفع التعويض نتيجة قيامها بإلغاء مشروع هضبة الأهرام
واستندت شركة SPP في طلب التحكيم الذي تقدمت به، إلى المادة 8 قانون الاستثمار المصري رقم 43 لسنة 1974، والتي تنص على أنه " تتم تسوية منازعات الاستثمار المتعلقة بتنفيذ هذا القانون بالطريقة التي يتم الاتفاق عليها مع المستثمر أو في إطار الاتفاقيات السارية بين جمهورية مصر العربية ودولة المستثمر، أو في إطار اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطن الدول الأخرى التي انضمت إليها مصر بموجب القانون رقم 90 لسنة 1971 في الأحوال التي تسري فيها". وقد دفعت الحكومة المصرية بعدم اختصاص المركز، استنادا إلى أن ثبوت الاختصاص لهذا الأخير يقتصي اتفاق الأطراف وتراضيها على الخضوع لتحكيم المركز، وأن التحديد الوارد بالمادة 8 يعد مجرد تعداد للطرق المحتملة لحل المنازعات، يمكن عرضها للمفاوضة بين المستثمر والحكومة وهو تحديد غير ملزم وغير تدريجي. وعلى خلاف ذلك ذهبت الشركة المدعية إلى أن المادة 8 حددت على نحو تدريجي وملزم كيفية حل المنازعات الناشئة عن الاستثمار. وقد أيدت هيئة التحكيم حجج الشركة المدعية، مادام لا يوجد اتفاق بين الأطراف على الوسيلة التي يمكن من خلالها حل النزاع، وبأنه لا توجد اتفاقية ثنائية بين مصر ودولة المستثمر، ومن ثم فإن نص المادة 8 من قانون الاستثمار المصري يشكل قبولا صريحا ومكتوبا من الجانب المصري باختصاص هيئة تحكيم المركز
هكذا فقد فتحت هيئة التحكيم التي أعلنت أنها مختصة للفصل في هذه القضية على أساس تشريع الاستثمار المصري، الباب أمام توسع كبير في تحكيم المركز لتغطية الحالات أو القضايا التي جاءت خالية من اتفاق التحكيم بالمعنى التقليدي، حيث يتعامل المستثمر الأجنبي مع النص التشريعي على أنه إيجاب مفتوح يقبله لمجرد طلب التحكيم أمام المركز
ومن بين المنازعات الأخرى التي عرضت على هيئات تحكيم المركز والتي عقدت الاختصاص لنفسها بناء على اتفاقية ثنائية للاستثمار، المنازعة بين جمهورية سريلانكا وشركة المنتجات الزراعية (AAPL) التابعة لهونغ كونغ، وتتمثل وقائع هذه القضية في قيام الشركة المذكورة بالاستثمار في جمهورية سريلانكا، وتعرضت أموال الشركة للنهب، فتقدمت الشركة المعنية بطلب التحكيم أمام المركز تدعي فيه مسؤولية سريلانكا عن الأضرار التي لحقت منشآتها نتيجة العملية العسكرية التي قادتها قوات الجيش النظامي ضد المتمردين الذين لجأوا إلى مركز الشركة للاختباء فيه، وطلبت الشركة الحكم لها بالتعويض عن الضرر الذي لحق بها وقد اعتمدت الشركة في طلبها على المادة 8 من الاتفاقية الثنائية المبرمة بين بريطانيا وسريلانكا والتي تم تمديد مفعولها إلى هونغ كونغ بتبادل المذكرات بين الدولتين، وقد تم قبول الطلب من المركز في غياب أي اتفاق تحكيمي
وقد تأكد هذا الاتجاه في عدة قضايا أخرى لاحقة، من أبرزها، قضية الشركة الإيطالية ساليني ضد الدولة المغربية، وهي القضية التي خرقت فيها هيئة التحكيم عقد الإستثمار بشكل واضح من أجل الاعتراف لنفسها بالاختصاص، ذلك أن عقد الاستثمار من خلال دفتر التحملات يخضع كافة المنازعات المحتملة إلى اختصاص المحكمة الإدارية بالرباط، غير أن الشركة المعنية لجأت إلى رفع دعوى "طلب" أمام المركز استنادا إلى الفقرة الثانية من المادة 8 من اتفاقية الاستثمار الثنائية المبرمة بين المغرب وإيطاليا سنة 1990ن والتي تمنح المستثمر الأجنبي الخيار بين إجراءات التقاضي الداخلية أو اللجوء إلى التحكيم في إطار المركز
وقد دفعت الحكومة المغربية بعدم اختصاص المركز على أساس أن الشركة المدعية تخلت عن حقها في الاحتكام إلى المركز عندما قبلت بالإحالة في عقد الاستثمار على المحاكم الوطنية، وقد ردت هيئة التحكيم على ذلك بأن المادة 25 (الفقرة1) من اتفاقية واشنطن تقضي بأن الدول الأطراف تعبر كتابة عن قبولها لاختصاص المركز، ويمكن أن يتجسد هذا القبول من خلال ثلاثة مصادر: عقد استثمار أو تشريع داخلي أو اتفاقية الاستثمار، وفي الحالة موضوع الخلاف، فإن المادة 8 (الفقرة2) من اتفاقية الاستثمار المبرمة بين المغرب وإيطاليا تمنح المستثمرين اختيارا غير مشروط يتمثل في رفع دعاويهم إما أمام المحاكم الوطنية، وإما بين يدي محكمة تحكيم يتم إحداثها لهذه الغاية أو أخيرا يمكن الالتجاء إلى تحكيم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، وتبعا لذلك لا يكون استنفاذ طرق الطعن الداخلية أمرا لازما، وإذا كان المغرب قد وافق على هذه المادة، فإن الاحالة على محكمة إدارية وطنية في عقد الاستثمار لا يتعين أن تعتبر في حد ذاتها بمثابة تنازل الأطراف عن الخيارات التي تتضمنها الاتفاقية الثنائية للاستثمار، وتبعا لذلك فإن قبول المغرب لاختصاص المركز يحظى بالأسبقية حتى في حالة رفع دعوى أمام هيئة قضائية داخلية
إذن يتضح من خلال الحيثيات التي عللت بها الهيئة ثبوت اختصاصها هي تبريرات محل نظر، وكأن هيئة التحكيم تثبت الاختصاص لنفسها في جميع الأحوال، ذلك أنه إذا كان صحيحا أن المادة 8 من الاتفاقية الثنائية التي تمنح المستثمر الأجنبي الخيار بين المحاكم الوطنية أو اللجوء إلى مركز واشنطن، فإن قبول الشركة المدعية في عقد الاستثمار لاختصاص المحكمة الإدارية بالرباط هو ذاته إعمالا لذلك الخيار وبالتالي لا يجوز الرجوع عنه، تطبيقا لمبدأ من اختار لا يرجع
الفقرة الثانية: طبيعة النزاعات المعروضة على مركز واشنطن
نصت المادة 25 من اتفاقية واشنطن في فقرتها الأولى على أنه "يمتد اختصاص المركز إلى المنازعات ذات الطابع القانوني التي تنشأ بين دولة متعاقدة وأحد رعايا دولة متعاقدة أخرى، والتي تتصل اتصالا مباشرا بأحد الاستثمارات"ويتبن من هذه المادة أن الاتفاقية حاولت تحديد نطاق الاختصاص الموضوعي لمركز واشنطن، ويتعلق الأمر بتوفر شرطين هما: وجود منازعة ذات طابع قانوني ونشوء المنازعة بشأن الاستثمار، لذلك نتساءل عن المقصود بالمنازعات ذات الطابع القانوني؟
وقد ذهب أحد الباحثين إلى أن المقصود به هو أن هذا النزاع "المنازعة" يجب أن يكون قابلا للتسوية عبر تطبيق قواعد القانون الدولي، وبالتالي يخرج أي نزاع لا يقبل هذه التسوية عن اصطلاح النزاع القانوني، وبهذا لا يشمل هذا الاصطلاح النزاعات السياسية والنزاعات التي لا يوجد بشأنها قاعدة قانونية دولية تطبق
بينما ذهب البعض الآخر إلى أن المقصود به هو استبعاد جميع الخلافات ذات الطابع السياسي والاقتصادي، كتلك المنازعات المتعلقة بالتأميم ونزع الملكية وغيره
من الإجراءات الانفرادية للدولة، لكن دون أن يمنع ذلك اختصاص المركز بالنظر في النزاع المتعلق بالتعويض عن الأضرار الناتجة عن هذه الإجراءات. لكن هذا التوجه لم يسلم من الانتقاد، إذ اعتبر البعض أن حصر اختصاص المركز في الخلافات القانونية لا يلائم منازعات الاستثمار، لأن الطابع السياسي هو الذي يغلب عليها في كثير من الأحيان، لكون هذه المنازعات لا تثار إلا بسبب الرغبة في تغيير الوضعية الاقتصادية للدولة
غير أن مثل هذا التمييز بين منازعات تدخل أو لا تدخل في إطار المنازعات ذات الطابع القانوني لن يأخذ أهمية كبيرة في حالة اتفاق الدولة والمستثمر الأجنبي على ماهية المنازعات التي يمكن إخضاعها لاختصاص المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، بينما تكبر أهميته وتزداد في حال خلو الاتفاق بين الطرفين على هذا التحديد
كما أنه يلاحظ من ناحية أخرى رغم اشتراط الاتفاقية ارتباط المنازعة ارتباطا مباشرا بأحد الاستثمارات فإنها لم تحدد مفهوم الاستثمار ذاته، وهو التحديد الذي اعتبره البعض ليس ضروريا مادام أن الاتفاقية قد خولت للدول المتعاقدة إمكانية التحديد المسبق لأنواع الخلافات التي تقبل عرضها على تحكيم المركز، وذلك من خلال الفقرة الأخيرة من المادة 25 التي تنص على أنه "يجوز لأي دولة متعاقدة، أثناء التصديق على هذه الاتفاقية أو قبولها أو إقرارها، أو في أي وقت لاحق، أن تخطر المركز بأنواع المنازعات التي ترغب في إخضاعها أو عدم إخضاعها للمركز..."إلا أن الاشكال يطرح عندما لا تحدد الدولة المضيفة مسبقا أنواع هذه المنازعات، وهو ما دفع بعض الفقه إلى وضع معايير مختلفة لإضفاء الصبغة الاستثمارية على المنازعة، فهناك المعيار الشخصي الذي يقوم على إرادة الأطراف لاعتبار عملية اقتصادية ما ذات طابع استثماري، أي أن للأطراف سلطة تقديرية واسعة في تقرير ما إذا كانت المعاملة تعتبر استثمارا، بل إن مجرد إدراج الأطراف لشرط تحكيم المركز في عقد الاستثمار، يفيد أن العملية هي عملية استثمارية
أما المعيار الآخر فهو معيار موضوعي، يعتبر أن مفهوم الاستثمار يتضمن العديد من الأنشطة المرتبطة بالجوانب الاقتصادية وتتخذ طبيعتها الاستثمارية بالنظر إلى مجموعة من العناصر كمدة المشروع، إذ يتعين أن تستغرق العملية الاستثمارية مدة من الزمن لا تقل عن سنتين، ومعيار المخاطر، فيجب أن يتحمل المستثمر جزء من المخاطر بحيث لا يمكن أن تتحمل دولة الاستقبال مخاطر مرتبطة بقرارت تندرج بحكم طبيعتها ضمن التسيير العادي للمقاولة، إضافة إلى هذا يجب أن تحقق العملية الاستثمارية مساهمة في التنمية الاقتصادية للدولة المستقبلة للاستثمار
وقد أثير هذا الموضوع أمام مركز واشنطن في قضية ساليني ضد المملكة المغربية، إذ دفعت هذه الأخيرة بعدم اختصاص المركز، لأن النزاع لا علاقة له بصفة مباشرة بالاستثمار، فالأمر يتعلق ببناء طريق سيار بين فاس والرباط. إلا أن محكمة التحكيم ردت هذا الدفع، واعتبرت أنها مختصة للبت في المنازعة خاصة وأن المعرفة (Know-How والتجهيز والعاملين والتمويل هي عناصر يتم تكييفها على أنها مساهمة في التنمية الاقتصادية للدولة المضيفة، وتكون بذلك قد أعطت لمفهوم الاستثمار معنى أكثر ليونة، وهو يدخل في إطار التوجه اللبرالي لقضاء التحكيم الذي يميل إلى توسيع اختصاص مركز واشنطن في جميع العمليات الاقتصادية
كما أنه يطرح التساؤل حول طبيعة التحكيم أمام مركز واشنطن في منازعات الاستثمار الأجنبي، فهل هو تحكيم ذو طابع دولي في جميع الأحوال أم أنه يمكن أن يكون تحكيما وطنيا؟
بخصوص موقف المشرع المغربي فيتميز بالغموض بشأن المعيار الذي تبناه لإضفاء الصفة الدولية على التحكيم
أما بالنسبة للفقه فقد أخذ بمعيارين للقول بدولية التحكيم من عدمه وهما؛ المعيار الاقتصادي والذي يضفي الصبغة الدولية على التحكيم إذا كان متعلقا بمصالح التجارة الدولية أي أن التحكيم يكون دوليا عندما يكون موضوع العقد يتعدى حدود أكثر من دولة واحدة، أما المعيار الثاني فهو ذاتي أو شخصي، والذي يرتبط أساسا بجنسية أطراف التحكيم
وبالرجوع إلى الفصل 40-327 من قانون المسطرة المدنية أنه أخذ بالمعيارين السابقين معا، لكن هل هذين المعيارين متلازمان أم أن توافر أحدهما يكفي لإضفاء الصفة الدولية على التحكيم؟ خاصة وأن المشرع قد استعمل واو العطف وبالنظر إلى أن التحكيم في منازعات الاستثمار أمام مركز واشنطن يكون فيه بالضرورة مستثمر أجنبي وهو شخص مقره بالخارج ويشترط فيه أن يكون حاملا لجنسية دولة أخرى فإنه يمكن القول أن التحكيم الذي يكون فيه كطرف مع الدولة المضيفة للاستثمار يعتبر تحكيما دوليا على هذا الأساس، وإن كان موضوع الاستثمار الأجنبي لا يتعلق في جميع الأحوال بمصالح التجارة الدولية
ومن خصوصيات تواجد الدولة أو أحد أجهزتها كطرف في عقود الاستثمار مع المستثمرين الأجانب أن أغلب المنازعات المتعلقة بهذه العقود ترتبط بتغيير الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المصاحبة لنشأتها، أخذا بهذه الاعتبارات فإن عقود الاستثمار غالبا ما تتضمن برغبة من المستثمر ما يعرف بشروط الثبات والاستقرار، والتي تهدف إلى منع الدولة من المساس بالعقد بإرادتها المنفردة، مستغلة في ذلك ما تتمتع به من امتيازات يمنحها لها القانون الداخلي بوصفها سلطة تنفيذية أو إدارية، غير أن الانتقاد الموجه لشروط الثبات وما تنطوي عليه من مساس بمبدأ سيادة الدولة، أدى إلى تضمين عقود الاستثمار شروطا لإعادة التفاوض، ومن ثم تقع داخل اختصاص المركز
كما أن من خصوصيات منازعات الاستثمار التي يختص بها مركز واشنطن للتحكيم الدولي تكون مرتبطة أساسا بتغيير الظروف الاقتصادية مما قد يترتب عليها اختلال التوازن الاقتصادي لعقد الاستثمار كما هو الشأن بالنسبة للقوة القاهرة، إذ أصبح التحكيم القضاء الملائم للنظر في منازعات الاستثمار المترتبة عن القوة القاهرة، فأطراف عقد الاستثمار لا يودون في الغالب إنهاء رابطتهم العقدية لمجرد تعرضهم لمثل هذه الظروف والتصرفات وإنما قد يجيدون من المناسب أكثر أن يعيدو النظر في هذه الرابطة لتصبح أكثر توافقا مع الظروف الجديدة ولينطلق تعاونهم من جديد على أساسه في مناخ يتسم بالودية أكثر منه ندية
المبحث الثاني: الإجراءات المتبعة أمام المركز لصدور الحكم التحكيمي
إن عملية التحكيم أمام مركز واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار، يمر عبر العديد من المراحل، وهذه المراحل تبتدئ بتقديم طرفي النزاع لطلب التحكيم لدى السكرتير العام للمركز كمرحلة أولية ويتم اختيار المحكمين وبصفة عامة تشكيل الهيئة التحكيمية ومناقشة القضية وهذه المرحلة يمكن تسميتها بالمرحلة ما قبل صدور الحكم التحكيمي (مطلب أول)، وتليها المرحلة الأهم، وهي مرحلة وصول الهيئة التحكيمية إلى النتيجة المطلوبة وهي صدورها لحكم تحكيمي يفصل في النزاع بين الأطراف (مطلب ثاني)
المطلب الأول: مرحلة ما قبل صدور الحكم التحكيمي
إن هذه المرحلة تتميز بعدة إجراءات يكون على الأطراف الراغبة في تحكيم المركز سلوكها ويتأتى ذلك بتحريك الدعوى التحكيمية وذلك بتقديم طلب إلى مركز التحكيم واختيار المحكمين وبعد ذلك تبدأ الهيئة التحكيمية بمناقشة القضية بعد النظر في اختصاصها (فقرة أولى)، كما تتميز هذه المرحلة بضرورة اختيار الأطراف للقانون الإجرائي الواجب التطبيق على الدعوى التحكيمية(فقرة ثانية)
الفقرة الأولى: تحريك الدعوى التحكيمية وتشكيل هيئة المحكمة
لتحريك الدعوى التحكيمية أمام مركز واشنطن لفض منازعات الاستثمار، يستدعي ذلك قيام أحد الأطراف بتقديم طلب إلى المركز، وبعد قبول الطلب (أولا) وتمنح للأطراف فرصة اختيار المحكمين ،تتشكل الهيئة التحكيمية التي تنظر في النزاع (ثانيا)
أولا: تقديم طلب التحكيم
نصت المادة 36 من اتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار في الفقرة الأولى من هذه المادة على أن أي دولة متعاقدة أو مواطن لدولة متعاقدة يرغب في تحريك إجراءات التحكيم عليه أن يوجه طلبا كتابيا بذلك إلى السكرتير العام الذي يرسل صورة من الطلب إلى الطرف الآخر، وأردفت في الفقرة الثانية من المادة أنه يجب أن يتضمن الطلب "معلومات عن المسائل موضوع النزاع، وعلى تعريف بشخصية أطرافه وعلى موافقتهم على اللجوء للتحكيم طبقا لقواعد تحريك إجراءات التوفيق والتحكيم، وخلصت في الفقرة الثالثة على النص، بقيام السكرتير العام بتسجيل الطلب إلا إذا تبين له على أساس المعلومات التي يتضمنها الطلب أن النزاع يخرج عن اختصاص المركز بشكل ظاهر، ويقوم بإخطار الطرفين بإتمام التسجيل أو رفضه"مما سبق يتبين أنه لتحريك الدعوى التحكيمية في مركز واشنطن استلزمت المادة 36 من الاتفاقية أن يقدم الطلب كتابة :وأن يتضمن بعض المعلومات وهي
1- تحديد أطراف النزاع بشكل دقيق، وهذا يتضمن أنه في حال كان أحد الطرفين في النزاع مؤسسة أو هيئة تابعة للدولة متعاقدة يجب ذكر ذلك، كما أنه يجب أن يتم تحديد جنسية الطرف الثاني لمعرفة ما إذا كان يحمل جنسية دولة متعاقدة أم لا، وكذلك لمعرفة ما إذا كان يحمل جنسية الدولة المتعاقدة الطرف في النزاع()، والهدف من هذا الشرط في اعتقادنا هو النظر فيما إذا كان المركز مختصا في نزاع الأطراف من غيره، خصوصا وأن المركز لا ينظر إلا في المنازاعات التي كان أطرافها دولا أو مواطنين لدول صادقت على الاتفاقية (اتفاقية واشنطن)
2- الإشارة إلى تاريخ التراضي بالتحكيم، وإذا كان الطرف شخصا طبيعيا فيجب بيان تحديد جنسيته عند تاريخ الطلب، وأنه لا يحمل جنسية الدولة الأولى الطرف في النزاع سواء عند تاريخ الرضاء أو عند تاريخ تقديم الطلب، أما إذا كان الشخص اعتباريا فيجب تحديد أنه عند تاريخ الرضاء بالتحكيم كان يتمتع بجنسية أحد من الدول المتعاقدة الطرف في المنازعة أو أنه قد نص في الاتفاق على وجوب معاملته كمواطن لدولة أخرى متعاقدة وذلك لأغراض تطبيق الاتفاقية()ونرى مع أحد الباحثين() أن التنصيص على تاريخ التراضي وقبول التحكيم أمام المركز له أهمية جد بالغة بخصوص منع تحايل الأطراف وذلك بتعديل الجنسية أو تغييرها بعد الاتفاق على التحكيم، بهدف خلق اختصاص محكمة المركز أو على العكس استبعاد اختصاصها
3- بيان أن النزاع بين الأطراف إنما هو نزاع قانوني نشأ عن استثمار() أجنبي مما يعني استبعاد المركز النزاعات المتعلقة بالخلافات السياسية لأن هذه الأخيرة تخرج عن الطبيعة القانونية، كما يخرج اختصاص المركز النظر في منازعات الاستثمار الداخلي لدولة معينة وبين مواطنيها()وعند تأكد السكرتير من توفر الشروط السابق ذكرها يقوم بتسجيل الطلب، كما يكون له الحق رفض تسجيل طلب التحكيم إذا رأى أن هذا الطلب يقع بطريقة واضحة خارج نطاق اختصاص المركز لفقدان واحد أو أكثر من شروط الاختصاص، ويجب عليه إذا رفض هذا التسجيل أن يقوم بإخطار الطرفين تلقائيا بهذا الرفض()ولقد منحت اتفاقية واشنطن لتسوية خلافات الاستثمار سلطة الرفض هذه للسكرتير العام للمركز، وذلك بهدف الوقوف في وجه الدعاوى التعسفية أو الكيدية التي قد ترفع ضد إحدى الدول المتعاقدة من طرف مستثمرين أجانب بشأن نزاعات تخرج عن اختصاص المركز وقد عززت الاتفاقية هذه السلطة عندما جعلت قرار الرفض الصادر عن الكاتب العام للمركز لا يقبل أي طعن()ثانيا: اختيار المحكمين وتشكيل هيئة المحكمة
طبقا لاتفاقية واشنطن يجب على الأطراف اختيار المحكمين في أقرب فرصة من وقت تسجيل الطلب()، والمدة التي أتاحتها الاتفاقية للأطراف لممارسة الحق في تعيين المحكمين هي تسعون يوما من يوم تسجيل الطلب، ومع ذلك يجوز للأطراف الاتفاق حول مدة أطول من ذلك()وتعيين المحكمين يكون عبر اختيارهم من قوائم المحكمين التي شكلها المركز، وهذه القائمة يتم إعدادها وفقا للمادة 14 :من اتفاقية واشنطن على الشكل التالي
أ- تقوم كل دولة من الدول المتعاقدة بتعيين 4 أشخاص يمكن أن يكونوا من مواطنيها أو من غير مواطنيها
ب- يمكن لرئيس مجلس الإدارة أي المدير العام للبنك الدولي ان يقوم بتعيين 10 أشخاص من مخلفي الجنسيات في القائمة
والأشخاص الذين يعينون في القوائم يجب أن تتوفر فيهم وفقا للمادة 14 من اتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، بعض الصفات كالأخلاق العالية، وأن يكون مسلم بمقدرتهم في ميادين القانون أو التجارة أو الصناعة أو المال، ويمكن الاعتماد على استقلالهم في الرأي ويراعي أيضا ضمان تمثيل النظم القانونية الرئيسية في العالم
والرأي فيما نعتقد أن المادة أعلاه قد تجاوزت بعض المقتضيات التي تقضي بها بعض التشريعات الخاصة بالتحكيم الداخلي في الدول بخصوص أهلية المحكم فيما إذا كان قاصرا أو محجورا عليه أو كانت له علاقة عداوة أو قرابة مع الأطراف، وذهبت إلى حل الإشكال المتعلق حسب أحد الباحثين فيما يخص القانون الواجب التطبيق على أهلية الحكم هل قانونه الشخصي أم قانون المكان الذي يجري فيه التحكيم أم القانون المطبق على إجراءات التحكيم أم القانون المطبق على العقد ، بحيث ذهبت الاتفاقية لتجاوز هذه الإشكالات إلى منع تسمية محكم يتمتع بجنسية أحد الأطراف عندما تعود التسمية إلى رئيس مجلس الإدارة(). بخلاف بعض الاتفاقيات الدولية الأخرى كاتفاقية نيويورك لسنة 1958 التي كرست مبدأ سلطان الإرادة بخصوص مسألة اختيار الأطراف للمحكم وخاصة بالنسبة لجنسيته، فيعمل وفقا لاتفاقهم(). أما اتفاقية جنيف لسنة 1961 فقد كرست رسميا اهلية الاجنبي ليكون محكما في المادة 3 من الاتفاقية
هذا فيما يتعلق بجنسية المحكمين ،اما بالنسبة لعدد المحكمين فقد نصت المادة 37 من اتفاقية واشنطن على أن المحكمة تتكون من شخص واحد أو من أي عدد فردي من الذين يعينون حسب اتفاق الطرفين، وإذا لم يتفق الطرفان على المحكمين وطريقة تعيينهم فإن المحكمة يجب أن تتكون من 3 محكمين يعين كل طرف واحد منهم والثالث يعين باتفاق الطرفين، وفي حالة عدم التوصل إلى تكوين المحكمة خلال 10 أيام من إرسال السكرتير العام إخطارا بتسجيل الطلب، أو في خلال أي مدة أخرى يتفق عليها الطرفان، فإن الرئيس يقوم وفقا للمادة 38 بتعيين المحكم أو المحكمين الذين لم يتم تعيينهم بعد بناء على طلب أي من الطرفين وبعد مشاورتهما قدر المستطاع()ومن خلال ما سبق يمكن القول أن الاتفاقية الخاصة بمنازعات الاستثمار تميزت عن غيرها من الاتفاقيات الدولية :للتحكيم الدولي في النقط التالية
1- السرعة في تعيين المحكمين وتشكيل المحكمة، وذلك بهدف التسريع في الفصل في النزاعات المطروحة على المركز() خصوصا وأن عقود الاستثمار مقيدة في الغالب بعنصر الوقت()
2- البدأ في إجراءات التحكيم مباشرة ومن وقت تقديم الطلب إلى المركز وفقا لما نصت عليه الاتفاقية، خلافا لما جاءت به بعض الاتفاقات الأخرى التي تعتد بتاريخ تسلم المدعى عليه لطلب التحكيم قصد البدأ في إجراءات التحكيم()
3- اختيار المحكمين لا يكون إلا بعد قبول الطلب، وهي خاصية فريدة تقضي بها الاتفاقية، إذ لا يكون اختيار المحكمين في اتفاق التحكيم سابقا عن قبول طلب التحكيم لدى المركز
4- جنسية المحكمين المختارين من قبل الأطراف يجب أن تكون غير التي يحملها الأطراف، وذلك لما لهذه الخاصية من أهمية في الحفاظ على حياد المحكم وعدم الانحياز إلى طرف دون آخر، وهذا ما يجعل المحكم موضع ثقة واطمئنان لدى كافة الأطراف
5- وأخيرا فإن المواد من 59 إلى 61 من الاتفاقية حددت كيفية تحديد النفقات ودفعها إذ يمكن للطرفين أن يتفقا مسبقا مع لجنة المحكمة على أتعاب المحكمين() وفي حالة عدم الاتفاق تقوم المحكمة بتقديرها ومن يقوم بدفعها أثناء صدور الحكم
الفقرة الثانية: القانون الإجرائي المطبق على الدعوى التحكيمية
يعتبر اختيار القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم في مركز واشنطن من المسائل المهمة على الصعيد الدولي، ذلك أنه في التحكيم الداخلي يكون المحكم على بينة من القانون الواجب التطبيق بشكل واضح خصوصا في حالة اتفاق الأطراف على ذلك()على خلاف لما هو عليه الحال في التحكيم الدولي وخاصة عندما يتعلق الأمر باتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار التي لا تأخذ بعين الاعتبار أي قانون وطني، وباعتبارها معاهدة دولية فهي تكون قانون المحكم طبقا للمادة 44 من الاتفاقية، غير أن الأمر يمكن مخالفته في حالة اتفاق الأطراف على تطبيق قانون ما فالاتفاقية تطبق في غياب اتفاق الطرفين(). وهذا ما يجعل الاتفاقية تتسم بنوع من المرونة، فطرفا النزاع غير مجبرين على التقيد بالكثير من القواعد التي فرضتها الاتفاقية والتي يمكنهم الاستغناء عنها باستبعادها والاتفاق على ما يخالفها، وبالرغم من : هذه المرونة التي تتميز بها فإنها لا تصل إلى حد يشل إجراءات التحكيم، ويظهر ذلك في النقط التالية()فمثلا إذا امتنع أحد الأطراف عن تعيين محكم بهدف شل هذه الإجراءات يبقى بالإمكان تشكيل المحكمة التحكيمية، وذلك بتدخل من رئيس مجلس إدارة المركز لتعيين المحكم()، وفي حالة عدم حضور أحد الطرفين أو عدم إجرائه دفاعه في أي مرحلة من مراحل الإجراءات، فإنه يجوز للطرف الآخر أن يطلب المحكمة أن تفصل في المسائل المطروحة عليها وأن تصدر حكما()وفي حالة ما إذا أثيرت أي مسألة من مسائل الإجراءات لا تشملها أحكام الاتفاقية أو قواعد التحكيم أو أي قواعد متفق عليها بين الطرفين يقوم المحكمون بالبث في هذه المسألة، ويجوز للمحكمة في حال لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك، وإذا كان ذلك ضروريا في أي مرحلة من مراحل الإجراءات أن تطلب إلى الطرفين تقديم مستندات أو أدلة مناسبة، وأن تزور المكان المتصل بالنزاع وتجري ما تراه لازما من تحقيقات()، وللإشارة فإنه بخصوص مكان إجراء التحكيم فقد نصت المادة 62 من الاتفاقية على أن التحكيم يجري في مقر المركز إلا في حالات معينة حددت : في المادة63 من الاتفاقية وذلك بعد موافقة الطرفين على ذلك وهذه الحالات هي
1- إمكانية إجراء التحكيم إذا اتفق الطرفان على ذلك في مقر محكمة التحكيم الدائمة أو أي مؤسسة أخرى مناسبة سواء كانت خاصة أو عامة، ويتفق معها المركز على ترتيبات لهذا الغرض
2- إمكانية إجراء عملية التحكيم في أي مكان آخر باتفاق الطرفين شريطة موافقة محكمة التحكيم بعد مشاورة السكرتير العام
وبخصوص الإجراءات الوقتية()، فإنه للمحكمة أن تأمر باتخاذ أي تدابير أو إجراءات مؤقتة وفقا للظروف وإذا ما ارتأت أن مثل هذا الأمر ضروري للمحافظة على حقوق أي من الطرفين، إلا أن اتفاقية واشنطن تفتح المجال في هذا الأمر بالنسبة للتدابير المؤقتة ولم تضع تحديدا لها()ومن جهة أخرى فاللغة المستعملة في سير إجراءات الدعوى في المركز فالمادة 22 من نظام إجراءات المركز منحت للأطراف إمكانية الاتفاق على استعمال لغة أخرى غير اللغات الرسمية للمركز بشرط موافقة المحكمة التحكيمية بعد استشارة السكرتير العام، وفي حالة عدم الاتفاق حول اختيار اللغة المستعملة فلكل واحد من الأطراف أن يختار لغة من اللغات الرسمية للمركز وهي الإنكليزية، الإسبانية، الفرنسية()وبخصوص المسطرة أمام المحكمة التحكيمية هي في مرحلة أولى كتابية تليها مسطرة شفوية ما لم يتفق على خلاف ذلك()وهكذا نخلص إلى أن اتفاقية واشنطن أخذت بمبدا سلطان الإرادة بخصوص اختيار القانون الواجب التطبيق على الإجراءات التحكيمية أمام المركز شريطة التنصيص على ذلك في اتفاق التحكيم، شأنها شأن باقي الاتفاقات الدولية التي سلكت هذا الموقف، كاتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين حيث جعلت في المادة 5 منها من بين أسباب رفض تنفيذ الحكم التحكيمي الدولي في البلد المطلوب فيه تنفيذ الحكم التحكيمي، مخالفة المحكمة للإجراءات التحكيم التي اتفقا عليها الأطراف، وكذلك اتفاقية جنيف الأوربية لعام 1961 التي أعطت الحرية للأطراف في حالة : النزاع()
1- إلى هيئة تحكيمية دائمة، وبالتالي يسير التحكيم وفقا لنظام هذه الهيئة
2- أو إلى تحكيم له إجراءات تحكيمية خاصة وبالتالي يكون للأطراف الحرية في تعيين
أ- المحكمين وطريقة تسميتهم في حالة حصول نزاع حول هذا
ب- مكان التحكيم
ج- القواعد المتبعة من قبل المحكمين لسير الإجراءات
أما على مستوى قواعد القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي اليونسترال لعام 1985 فالأمر لا يختلف فحرية الأطراف ومبدأ سلطان الإرادة في اختيار قانون الإجراءات هو الأصل، حيث يجد مصدر في المادة 19 من هذا القانون النموذجي
يبقى في الأخير أن نشير إلى أنه سواء تعلق الأمر بإجراءات الدعوى التحكيمية أمام مركز واشنطن وفقا لما نصت عليه اتفاقية واشنطن لسنة 1965 أو استنادا إلى اتفاقيات دولية أخرى. وسواء أكان القانون المطبق هو قانون مكان التحكيم أم قانون إرادة الطرفين فإن هناك بعض القواعد التي يجب أن يخضع لها التحكيم في جميع الحالات وأهم هذه : القواعد هي
1- قاعدة وجاهية المحاكمة بحيث يطلع كل طرف على المستندات التي يبرزها خصمه، وعلى كل حجة يبديها
2- قاعدة المساواة بين الطرفين بإعطاء كل طرف الفرصة الكافية لإبداء دفاعه أو هجومه
3- على المحكم أن يبني حكمه وقراره على قناعته الشخصية وليس على قناعة غيره
4- المحاكمة التحكيمية ليست علنية ولا يحضرها إلا الأطراف وشهودهم ولا يشذ عن هذه القاعدة الأولى إلا في حال اتفاق الخصوم على هذا الأمر
5- يمكن للمحكمين الاستعانة بخبير إذا اقتضى حل النزاع مثل هذا الأمر، فإذا لم يتفق الخصوم على تعيين خبير، قام المحكم أو المحكمة بتعيينه()وهكذا فبانتهاء كافة أطوار العملية التحكيمية من استماع الى الشهود وتبادل المذكرات وتقديم المستندات وعموما انتهاء جميع التحقيقات والمرافعات تحجز الهيئة التحكيمية الملف للمداولة، وتصدر حكمها التحكيمي
المطلب الثاني: الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن
يعتبر الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن النتيجة المنطقية لجميع الإجراءات التي تكون أمام المركز للفصل في نزاع معروض على هيئة التحكيم يتعلق بالاستثمارات الأجنبية والتي يكون أحد أطرافها دولة ومستثمر أجنبي، وعديد من التشريعات والاتفاقيات الدولية لم تضع تعريفا معينا لحكم التحكيم وإن كانت اتفاقية نيويورك() قد تضمنت إشارة إلى الحكم التحكيمي، أما على مستوى الفقه فقد عرفه البعض بأنه العمل الذي بموجبه يفصل المحكمون في المسائل المتنازع عليها والتي عهد إليهم الخصوم بالفصل فيها، فيما ذهب البعض الآخر إلى القول بأنه قرار محكمة التحكيم الذي يحسم بصفة نهائية المسائل المعروضة عليها()، والحكم الصادر عن مركز واشنطن حسب اتفاقية واشنطن لسنة 1963() هو حكم ملزم للطرف الخاسر للدعوى بحيث يجب الاعتراف به وتنفيذه (الفقرة الأولى) إلا إذا صدر بشكل مخالف لما تنص عليه الاتفاقية فإنه يمكن الطعن فيه وفق شروط معينة وأمام المركز نفسه (الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى: تنفيذ الحكم الصادر عن هيئة التحكيم بمركز واشنطن
يعتبر الحكم التحكيمي صادرا عن هيئة التحكيم بمركز واشنطن لفض منازعات الاستثمار في حالة وجود محكم واحد بعد الانتهاء من تقديم الوثائق والمذكرات بين الطرفين وإقفال باب المرافعة، أما في حالة تكوين هيئة أو محكمة تحكيم، فإن هذا الحكم يصدر بعد أن يتداول المحكمين في حيثيات النزاع وهذه المداولة يجب أن تكون سرية، وليس من الضروري أن تتم المداولة بين المحكمين وهم مجتمعين في مكان واحد، بل قد يقوم رئيس المحكمة بإصدار مشروع الحكم التحكيمي، وترسل نسخة منه إلى كل محكم في البلد الذي يوجد فيه، ويقوم كل منهم بإبداء رأيه بالمراسلة إلى أن يتم الاتفاق على صيغة نهائية لهذا الحكم()، وحسب المادة 48 لاتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار فإن الحكم يصدر بأغلبية أعضاء محكمة التحكيم ويصدر كتابة وأن يتناول جميع المسائل التي طرحت على المحكمة، كما يجب أن يكون معللا أي أن يوضح الأسباب التي بني عليها، مع توقيع الأعضاء الذين صوتوا لصالحه، كما يمكن لأي عضو في المحكمة أن يلحق بالحكم رأيه الفردي، سواء كان يعارض أو يوافق الحكم
ولاشك أن الحكم الصادر عن مركز واشنطن هو حكم أجنبي بالنسبة للدولة الصادر ضدها أو التي يتعين أن ينفذ على أراضيها، ومادام الأمر كذلك فإنه من اللازم على كل دولة متعاقدة في الاتفاقية الدولية الخاصة بالاعتراف بالقرارات التحكيمية الأجنبية وتنفيذها المعروفة باتفاقية نيويورك لسنة 1958، أن تعترف بالحكم التحكيمي الأجنبي غير أنه وإن كان الحكم الصادر عن مركز واشنطن حكما أجنبيا يتعين الاعتراف به() فإنه يمتاز بخاصية أخرى تتمثل في أنه ملزم للطرفين بمعنى أن الدولة المتعاقدة ليس من حقها أن ترفض الاعتراف به كحكم تحكيمي صادر عن المركز كما يجب أن تعترف بإلزاميته(). وبذلك تكون اتفاقية واشنطن قد تشددت في إلزامية الحكم التحكيمي الصادر عن المركز واعتبرته حكما نهائيا لا يمكن رفضه أو استبعاده، ودون أن يكون الطرف الذي صدر لصالحه بتقديمه للمحاكم الوطنية في دولة التنفيذ قصد الاعتراف به، بخلاف اتفاقية نيويورك التي خفضت إلى حد كبير الأسباب التي يمكن على أساسها رفض الاعتراف بحكم المحكم أو رفض تنفيذه بحيث أجملتها المادة الخامسة من اتفاقية نيويورك لسنة 1958 فيما يلي
1- عدم أهلية الأطراف طبقا للقانون الواجب التطبيق عليهم أو بطلان عقد التحكيم في ظل قانون التحكيم المختار بواسطة الاعتراف، وعند غياب اتفاقهم على قانون معين، ففي ظل القانون الذي تم فيه إصدار الحكم
2- أن الطرف المدعى عليه لم يتم إعذاره بطريقة سليمة أو إذا لم يستطع إبداء الدفاع عن قضيته
3- أن الحكم فصل في نزاع غير وارد في مشارطة التحكيم أو في عقد التحكيم أو تجاوز حدودهما فيما قضى به
4- إذا كان تكوين المحكمة أو إذا كانت القواعد الإجرائية لا تتفق مع تلك التي ارتضاها الأطراف
5- إذا كان الحكم غير ملزم بسبب تجنيبه أو إيقافه بواسطة السلطة المختصة أو في ظل القانون الذي تم فيه إصدار الحكم
6- إذا كان موضوع النزاع غير قابل للفصل فيه بطريقة التحكيم في ظل قانون مكان التحكيم
7- إذا كان الاعتراف بالحكم وتنفيذه مخالفا للنظام العام في بلد التنفيذ
وهكذا نخلص إلى أن الأسباب المشار إليها أعلاه تجعل من أحكام المحكمين الصادرة عن هيئات تحكيم دولية ليست لها القوة الإلزامية إذ من اليسير عن ترفض المحاكم الوطنية الاعتراف بها بناء على سبب بسيط، بخلاف الحكم الصادر عن مركز واشنطن ذي القوة الإلزامية تجاه كافة الدول المتعاقدة
والرأي فيما نعتقد أن السبب يكمن في جعل هذا الحكم يمتاز بهذه الخصوصية، هو صدوره عن هيئة تحكيم دولية أو أهمية بمعنى أنها تابعة للبنك الدولي، إضافة إلى كون المحكمين الذين يصدرون الحكم تتوفر فيهم الاستقلالية والحياد والنزاهة ويكون مسلم بمقدرتهم في ميادين القانون أو التجارة أو الصناعة أو المال()، إضافة إلى حملهم لصفة "عدم الانحياز" بمعنى أنهم لا يحملون جنسية الخصوم()، غير أن السبب المهم في تقديرنا يكمن في اللاتوازن بين الطرفين بحيث ان أحد أطراف النزاع دولة ذات سيادة والطرف الآخر المنازع مواطن أجنبي مما يعني هذا الأمر إمكانية عدم الاعتراف بالحكم الصادر لصالح المستثمر الاجنبي وتعنت الدولة المستثمرة على أراضيها بعدم الاعتراف وتنفيذ الحكم، وهذا ما جعل اتفاقية واشنطن تمنح صبغة الإلزامية للحكم التحكيمي الصادر عن مركز التحكيم بواشنطن
ورغم أن اتفاقية واشنطن قد نصت على إلزامية الاعتراف بحكم المحكمين الصادر عن مركز واشنطن فإن ذلك ربطته بالقوة التنفيذية للحكم، فالحكم الصادر عن المركز يتمتع بالقوة التنفيذية في دولة التنفيذ دون أي إجراء آخر أمام المحاكم الوطنية في ذلك البلد، إذ يحق للمحكوم له إبراز نسخة من الحكم مصادقا عليها من السكرتير العام للمركز، وبذلك تعمد الدولة المتعاقدة بتنفيذ التزاماتها المالية التي يقضي بها قرار التحكيم كما لو كان حكما قطعيا صادر عن إحدى محاكمها()، إضافة إلى ذلك فقد نصت الاتفاقية على مثل هذا الإجراء حتى بالنسبة للدول المتعاقدة ذات النظام الاتحادي، إذ يجوز للمحكوم عليه أن يقدم الحكم التحكيمي أمام محاكمها الاتحادية قصد تنفيذه وفقا للإجراءات الخاصة بتنفيذ الأحكام القضائية في ذلك البلد
فإذا كان من الآثار التي يرتبها الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن هي إلزامية الاعتراف به وإمكانية تنفيذه على الفور، فإن الحكم ينسحب بآثاره كذلك على المحكم أو المحكمة التحكيمية التي أصدرته() فبمجرد إصدار الحكم ترتفع يد المحكم أو المحكمين الذين أصدروا القرار عن موضوع النزاع فلا يعود لهم الحق بنظره ثانية()، غير أن المادة 49 من اتفاقية واشنطن وضعت استثناء بحيث نصت على أنه "يجوز للمحكمة بناء على طلب يقدمه أحد الطرفين خلال 45 يوما من تاريخ صدور الحكم أن تقوم بعد إخطار الطرف الآخر بالفصل في أي مسألة أغفلت الفصل فيها في الحكم، وبتصحيح أي خطأ كتابي أو حسابي أو ما شابه في الحكم ويعتبر قرارها جزء من الحكم ويخطر به الطرفان بنفس الطريقة كالحكم
والملاحظ مما سبق ونحن نتحدث عن إلزامية حكم المحكمين من حيث الاعتراف به وقبول تنفيذه، أن هذا التنفيذ لا يجب أن يتعارض مع الأحكام التي ترعى حصانته إذ يمكن أن يتعرض قرار التحكيم هذا لمخاطر التصادم مع أحكام القانون الوطني في هذا النطاق()، وهذا ما يستفاد من المادة 55 من اتفاقية واشنطن بالتنصيص على أنه "لا يجوز تفسير المادة 54 على أنها تتضمن أي استثناء من أحكام القانون المعمول به في أي دولة من الدول المتعاقدة، والمتعلق بحصانة تلك الدولة أو أي دولة أجنبية أخرى"فالملاحظ لهذه المادة أنها تبين أن الحكم التحكيمي قد يصطدم بالحصانة السيادة لبعض الدول() بحيث تقف حائلا أمام المحكوم له الراغب في تنفيذ الحكم بالرغم من الإلزام الذي جاءت به الاتفاقية، وهذا ما وقع بالفعل في العديد من القضايا التي رفضت الدولة المحكوم عليها أو المؤسسات التابعة لها، تنفيذ حكم المركز، ومن بين هذه القرارات، قرار التحكيم الصادر في كل من قضية "لينا غولد فييلدس" ضد حكومة الاتحاد السوفياتي سابقا وقضية شركة لونجار ضد الحكومة اليوفسلافية وقضية شركة "سوكوبلج" ضد الحكومة اليونانية وقضية شركة الدراسات والمقاولات ضد الحكومة اليوغسلافية وقضية شركة "صابير" ضد مؤسسة البترول الإيرانية.."()فعلى الرغم من أن الاتفاقية ألزمت الدول المتعاقدة بمعاهدة حكم المركز كما لو كان حكما نهائيا صادر عن أحد محاكمها الوطنية فإنها لم تلزمها باتخاذ وسائل التنفيذ لإعمال هذا الحكم()، مما يعني أن حكم المركز يتعطل تنفيذه بمجرد الدفع بالحصانة السيادية قصد منع التنفيذ ضد أملاك أو أموال الدولة الأجنبية() كما حصل في القضية بين حكومة الكونكو وشركة بنفونوشي بونفان الإيطالية (B.B)()، حيث محكمة الاستئناف بباريس ذهبت إلى التمييز بين الاعتراف بالحكم التحكيمي للمركز ذي القوة الإلزامية وبين إمكانية التنفيذ على أموال الدولة المتعاقدة عند تفسيرها للمادة 54 من الاتفاقية، وهذا الأمر، أي التفرقة بين الاعتراف بحكم المركز وقوته الملزمة وبين إجراءات التنفيذ والدفع بالحصانة السيادية انتقده بعض الفقه()، وذلك لسببين :الأول أنه لن يكون نظام التحكيم التجاري الدولي فعالا إلا إذا ضمن لحامل الحكم الحصول على حقه حتى آخر مرحلة، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا استطاع حامل الحكم تنفيذه. والسبب الثاني، فالاتفاقية لم تحرم المحاكم الوطنية من منح إجراءات التنفيذ ضد أملاك المستثمر الخاصة، إذ لاشك أنه ليس من العدل أن تمنع الاتفاقية المحاكم الوطنية في إحدى الدول المتعاقدة من منع إجراءات التنفيذ ضد أملاك أو أموال الدولة الطرف في تحكيم المركز إذا لم تكن هذه الأموال مخصصة لخدمة عامة
ونحن بدورنا نرى أن الدفع بالحصانة السيادية تجاه أحكام المركز قصد التهرب من عدم تنفيذها، أمر منتقد للأسباب : التالية
1- إن اتفاقية واشنطن في الفقرة 4 من المادة 25، منحت الحق للدول المتعاقدة في إمكانية إخطار المركز وقت التصديق على الاتفاقية أو في وقت لاحق بعدم إخضاع طائفة من المنازعات لاختصاص المركز، وهو الأمر الذي ذهبت بعض الدول إلى تطبيقه مثل السعودية التي استبعدت منازعات البترول من نطاق اختصاص المركز()، وجميكا وغينيا اللتان استبعدتا المنازعات المتعلقة بالمواد المعدنية والطبيعية()، لذلك فقبول التحكيم في منازعات تتعلق بمصالح حيوية للدولة بمثابة تنازل عن هذه السيادة
2- إن الحكم التحكيمي يستمد قوته الإلزامية من اتفاق التحكيم ومن مبدأ سلطان الإرادة ورضى الطرفين في إخضاع منازعات الاستثمار الناشئة بينهم لتحكيم المركز(). لذا فالدفع بالحصانة السيادية ضد أحكام المركز فيه تعارض مع مبدأ حسن النية في تنفيذ الالتزامات التعاقدية
3- كما أن التمسك بالحصانة السيادية لا يكون إلى في مواجهة قضاء دولة أخرى تتساوى معها في السيادة، خصوصا إذا كان هناك تطبيق لمبدأ المعاملة بالمثل في إطار القانون الدولي. وهذا الأمر الذي لا يسري على الحكم التحكيمي باعتباره قضاء خاصا غير خاضع لسيادة أي دولة أجنبية()
4- ومن ناحية أخرى فقبول الدولة الطرف في النزاع بتنفيذ الحكم التحكيمي على أموالها يبعث الثقة والارتياح لدى المستثمرين الأجانب، مما يشجع دخول الاستثمارات الأجنبية إلى البلد المضيف، وفي ذلك مصلحة للاقتصاد الوطني لا محالة
ونخلص في الأخير إلى أن المادة 55 من اتفاقية واشنطن وإن كان وضعها منتقد لدى البعض()، بحيث سمحت للدول بالدفع بحصانتها السيادية تجاه أحكام المركز مما يتناقض مع الأهداف التي وضعت من أجله الاتفاقية، فإنها نصت على ضمانات أخرى، يمكن للمستثمر الأجنبي اللجوء إليها في حالة رفض الدولة المضيفة للاستثمار تنفيذ الحكم، وهي اللجوء إلى الحماية الدبلوماسية لدولته، غير أن اللجوء إلى هذه الوسيلة لا يكون إلا في حالة عدم احترام الدولة الأخرى المتعاقدة حكم المحكمين كما أشرنا إلى ذلك أعلاه. وهذا ما تقضي به المادة 27، من اتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار "حيث جاء فيها لا يجوز لدولة متعاقدة أن تمنح حماية دبلوماسية، أو أن تقوم بمطالبة دولية، بالنسبة لنزاع اتفق أحد مواطنيها مع دولة متعاقدة أخرى على أن يطرح على التحكيم أو طرح فعلا على التحكيم طبقا لهذه الاتفاقية إلا في حالة عدم احترام الدولة الأخرى المتعاقدة حكم المحكمين الصادر في النزاع وعدم تنفيذه، ولا يعتبر من باب الحماية الدبلوماسية في مفهوم الفقرة الأولى تبادل وجهات النظر بالطرق الدبلوماسية غير الرسمية بقصد تسهيل تسوية النزاع فقط لا غير"وبهذا فإن اتفاقية واشنطن تقدم ضمانة بهدف تنفيذ حكم التحكيمي الصادر من المركز عبر المادة 27 منها، وذلك عبر السماح للمستثمر الأجنبي بالوقوف أمام جهة اختصاص دولي جنبا إلى جنب مع الدولة المضيفة للاستثمار()، أي أمام محكمة العدل الدولية طبقا لما جاءت به المادة 64 من الاتفاقية التي تنص على أن "أي نزاع بين الدول المتعاقدة يتعلق بتفسير هذه الاتفاقية أو بتطبيقها ولم تتم تسويته بالمفاوضة، يحال إلى محكمة العدل الدولية بناء على طلب أي من أطراف النزاع، إلا إذا اتفقت الدول المعنية على طريقة أخرى لتسويته"وبالتالي فإن المادة أعلاه تشكل وسيلة مهمة ضد حدوث أي مخالفة مهمة، كعدم الانصياع لحكم التحكيم()، إذ سمحت للدول باللجوء لمحكمة العدل الدولية() قصد حل النزاعات المتعلقة بتطبيق اتفاقية واشنطن، وهذه المادة تعتبر وسيلة فعالة في استخدام تقنية الحماية الدبلوماسية للمستثمر الأجنبي إذ يحق للدولة التي يحمل جنسيتها أن تتبنى دعواه أمام هذه المحكمة قصد الحصول على التعويضات إذا كان المستثمر الأجنبي قد أصابته أضرار مادية من جراء عدم تنفيذ حكم محكمة تحكيم المركز()، وللمحكمة أن تفصل في النزاع بإصدار حكمها وإجبار الدولة للاستثمار بتنفيذه، وذلك بتدخل من السلطة التنفيذية للجمعية العامة المتمثلة في مجلس الأمن
ويطرح سؤال في هذا الخصوص فيما إذا كان فتح الباب للمستثمر الأجنبي باللجوء إلى محكمة العدل الدولية في حالة عدم تنفيذ الحكم من قبل الدولة المضيفة، يفرض أولا طلب الحماية الدبلوماسية من قبل دولته أو يحق له مباشرة الدعوى بصفته الشخصية؟ ذلك أنه بالرجوع إلى الاتفاقية وخاصة الباب الثامن منها المعنون تحت عنوان "المنازعات بين الدول المتعاقدة"!!، هذا الإشكال تجيب عنه المادة 34 من النظام الأساسي للمحكمة العدل الدولية، إذ جاء فيها بأنه "للدول وحدها الحق في أن تكون أطرافا للدعاوى التي ترفع للمحكمة، وبالتالي فإن المستثمر الأجنبي، لا يحق له الدفاع عن نفسه أمام المحكمة إلا إذا تبنت دولته دعواه أمام المحكمة()، غير أن هذا الأمر لا تأخذ به جل الدول إذ قد يجد بعض المستثمرين أن الدول التي يحملون جنسيتها، تمنع عبر قوانينها الوطنية اللجوء إلى التحكيم كما هو الشأن بالنسبة لدول أمريكا اللاتينية التي ترفض الانضمام إلى اتفاقية واشنطن استنادا إلى ما يسمى بشرط CALVO()وفي الأخير يمكن القول أن اتفاقية واشنطن منحت للحكم التحكيمي القوة الإلزامية اعترافا وتنفيذا رغم الثغرة التي شابت المادة 55 منها والتي فتحت المجال للدول بالدفع بحصانتها السيادية للتهرب من حكم المركز، إلا أن الضمانات التي خولتها الاتفاقية للمستثمر الأجنبي فيما يخص اللجوء للحماية الدبلوماسية وكذلك تدخل محكمة العدل الدولية
غير انه ومع ذلك فان هذا الحكم لا يمكن تنفيذه إذا اعتراه سبب من أسباب البطلان، الشيء الذي يدفع الطرف المتضرر من هذا الحكم للطعن فيه إذا توفرت الشروط اللازمة لذلك حسب ما جاءت به الاتفاقية
الفقرة الثانية: الطعن في الحكم الصادر عن المركز
يعتبر القرار التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن لتسوية خلافات الاستثمار قرارا نهائيا لا يمكن استئنافه، فهو كالحكم النهائي()، ومع ذلك فقد أتاحت اتفاقية واشنطن للأطراف إمكانية المنازعة في الحكم بناء على ثلاثة أسباب وهي
أولا: طلب تفسير الحكم
جاء في المادة 50 من اتفاقية واشنطن مايلي
1- إذا نشأ أي نزاع بين الطرفين بالنسبة لمعنى الحكم أو نطاقه يجوز لأي من الطرفين أن يطلب تفسيره بطلب كتابي يوجه إلى السكرتير العام
2- يعرض الطلب على المحكمة التي أصدرت الحكم إذا كان ذلك ممكنا، وإذا لم يمكن ذلك تؤلف محكمة جديدة وفقا للقسم الثاني من هذا الباب، ويجوز للمحكمة إذا قدرت أن الظروف تتطلب ذلك أن توقف تنفيذ الحكم إلى أن تصدر قرارها"وهكذا حسب المادة أعلاه، يمكن لأي من الطرفين أن يطلب إلى المحكمة تفسير معنى أو مضمون الحكم أو نطاقه، وهذا الطلب يجب أن يكون في شكل طلب كتابي ويتم إيداعه لدى السكرتير العام للمركز، وهذا الطلب يجعل الفصل فيه بمعرفة المحكمة التي أصدرته إن أمكن ذلك()ثانيا: طلب مراجعة الحكم بإعادة النظر
إن الطريقة الثانية التي يمكن من خلالها الطعن في الحكم جاءت ضمن ما نصت عليه المادة 51 من الاتفاقية، والتي حصرت الطلب على أن يكون مبنيا على أساس اكتشاف واقعة جديدة من شأنها التأثير في الحكم، شريطة أن تكون هذه الواقعة مجهولة بالنسبة للمحكمة وللطرف الذي طلب إعادة النظر بالحكم على أساسها، وذلك في وقت صدور الحكم على ألا يكون سبب جهل طالب إعادة النظر عائدا إلى تقصيره()واشترطت المادة لقبول الطلب أن يكون كتابة ويقدم إلى السكرتير العام، خلال 90 يوما من تاريخ اكتشاف الواقعة وفي كل الأحوال خلال 3 سنوات بعد صدور الحكم
وللإشارة فإنه من الآثار المترتبة عن قبول طلب إعادة النظر، فإن المادة 51 من الاتفاقية سمحت للمحكمة إذ كانت الظروف تتطلب ذلك أن توقف تنفيذ الحكم إلى أن تصدر قرارها، وإذا طلب أحد الأطراف المحكمة بوقف تنفيذ الحكم، يمكن لها أن توقف التنفيذ مؤقتا إلى أن تفصل في هذا الطلب
إضافة إلى طلب تفسير الحكم التحكيمي وسماح الاتفاقية لأحد الأطراف بطلب إعادة النظر في الحكم بعد صدوره، فإن أهم ما جاءت به الاتفاقية بخصوص الطعن في الحكم التحكيمي والحد من فعاليته هو طلب بطلان الحكم التحكيمي
ثالثا: الطعن بالبطلان في الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن
تضمنت المادة 52 من اتفاقية واشنطن لتسوية خلافات الاستثمار على خمسة أسباب يجوز بمقتضاها لأي من الطرفين : أن يطلب إبطال قرار التحكيم وهي
1- إذا لم تكن الهيئة التحكيمية مكونة تكوينا سليما
2- إذا تجاوزت الهيئة التحكيمية سلطتها بشكل ظاهر
3- إذا وقع تأثير غير مشروع على أحد أعضائها
4- إذا وقع تجاوز خطير لقاعدة أساسية من قواعد الإجراءات
5- اذا أخفق الحكم التحكيمي في بيان الأسباب التي بني عليها
وسنبين على التوالي هذه الأسباب بالشرح
* إن السبب الأول من أسباب بطلان حكم التحكيم يتمثل في عدم تكوين الهيئة التحكيمية تكوينا سليما، فالمعروف أن القاعدة الأساسية التي تكرسها القوانين المدنية هي احترام إرادة الطرفين، بحيث أن تشكيل المحكمة يجب أن يتم وفقا لما نصت عليه إرادة الطرفين في العقد التحكيمي، وإرادة الطرفين لا تحدد شروطا لتشكيل المحكمة التحكيمية عادة بل يستنتج من قانون معين أو نظام تحكيمي معين، ويصبح بذلك هذا النظام أو هذا القانون هو إرادة الطرفين، ومخالفته في تشكيل المحكمة مخالفة لإرادة الطرفين()، وتشكيل المحكمة باتفاق الأطراف في عقد التحكيم، تنص عليه الفقرة الثانية من المادة 37 من اتفاقية واشنطن، وفي حالة عدم اتفاق الأطراف، فالمحكمة يجب أن تتكون من 3 محكمين يكون أحدهم رئيسا للمحكمة (ف 3 من المادة 37 السابقة)
* والسبب الثاني() يتمثل في استعمال المحكمة سلطة زائدة عن اختصاصها، ويشمل هذا السبب صورا متعددة، كأن تقوم المحكمة بالفصل في مسائل لم يتفق الطرفان على فصلها أمام المحكمة، سواء بشرط التحكيم أو باتفاق التحكيم، ويمكن أن يشمل هذا السبب عدم تطبيق المحكمة للقانون الذي اتفق الطرفان على تطبيقه() وفقا للمادة 42 من الاتفاقية، ولا يقصد بهذا السبب التطبيق الخاطئ للقانون الذي اتفق الطرفان على تطبيقه على النزاع الحاصل بينهما، أي أنه على المحكمة الفصل فيما هو مطلوب، وفقط بما هو مطلوب، وعدم تجاوز المحكمة لاختصاصها
* وقوع تأثير غير مشروع على أحد أعضاء الهيئة التحكيمية، كتلقي العضو لرشوة() من أحد الأطراف، أو بسبب آخر غير مشروع كأن يقع التأثير على أحد أعضاء المحكمة بشكل مباشر يمس المبادئ الأساسية التي ترتبط باختيار المحكم، كاستقلالية المحكم عن الطرف الذي قام بتعيينه واستقلاليته عن البلد الذي ينتمي إليه، وفكره السياسي والديني بشكل يمنعه من الحكم بالعدل بين الطرفين()
* السبب الرابع يتعلق بتجاوز الهيئة التحكيمية لقاعدة أساسية من قواعد الإجراءات، كعدم تأمينها حق الدفاع لطرفي النزاع، فمن المبادئ الأساسية في تأمين حق الدفاع نجد مبدأ التواجهية أو وجاهية المحاكمة، وهو مبدأ يضمن حق كل طرف في أن يوضح ما هو ضروري لنجاح طلبه أو دفاعه، كما أنه يضمن لكل طرف يبلغ مستنداته ووسائل إثباته إلى الطرف الآخر فإن أغفلت الهيئة التحكيمية ذلك فإن قرارها يكون معرضا للبطلان()
* السبب الخامس يتعلق بإخفاق الحكم التحكيمي في بيان الأسباب التي بني عليها، ذلك ان تسبيب الأحكام يشكل في الواقع ضمانة للثقة في أسلوب التحكيم كوسيلة بديلة عن قضاء الدولة، وإن كانت بعض الأنظمة التحكيمية لا تتطلبه، كالنظام التحكيمي الإنجليزي، كما أنه وسيلة للرقابة على عملية التحكيم والقائمين به والطريقة التي توصلوا بها إلى النتائج في حسم النزاع، فكل قوانين التحكيم في العالم لديها اتجاه لإلزام المحكمين بتسبيب الأحكام التحكيمية وتعليلها()، لذا فإن اتفاقية واشنطن اعتبرت عدم تسبيب الحكم يؤدي إلى إمكانية إبطاله
والملاحظ من خلال سردنا لأسباب البطلان التي نصت عليها اتفاقية واشنطن أن الاتفاقية حصرت هذه الأسباب في خمسة أسباب فقط، من هنا يتبادر إلى الذهن ويمكن التساؤل عن سبب مهم تكاد لا تخلو معظم القوانين التحكيمية في العالم() من اعتباره كسبب للبطلان، والأمر يتعلق بإمكانية طلب إبطال الحكم إذا كان مخالفا للنظام العام الوطني أو الدولي، فما محل هذا السبب في اتفاقية واشنطن، وهل الحكم التحكيمي إذا بني على سبب مخالف للنظام العام في الدولة المضيفة للاستثمار يمكن الاحتجاج بعدم تنفيذه؟ وما سر عدم التنصيص عليه في اتفاقية واشنطن؟، وفي القانون المغربي هل يمكن الدفع بالنظام العام، إذا بنى على أساسه حكم المركز، وذلك للحيلولة دون تنفيذه في المغرب؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة في غاية الصعوبة ، والسبب في ذلك أن مفهوم النظام العام() يعد من بين المسائل القانونية والمفاهيم الأكثر تعقيدا، ذلك أنه فكرة مرنة تتغير بتغير ظروف المجتمعات من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن حيث الأنواع، فينقسم إلى قسمين نظام عام داخلي ونظام عام دولي، وبين هذا وذاك تعارض في أحوال وتوافق في أحيان أخرى، فإذا كانت الربا، وألعاب القمار والكازينو وعقود بيع الخمور من النظام العام الداخلي يمكن للقاضي أن يستبعد أي حكم تحكيمي يفصل في النزاع المثار بشأن هذه المعاملات، فإن هذه الأمور لا تعتبر من النظام العام في البلدان الغربية()، غير أن النظام العام الداخلي قد يكون جزءا من النظام العام الدولي بمعنى أن ما قد يكون مخالفا للنظام العام الدولي كالبغاء وتجارة المخدرات والرشوة واستغلال النفوذ، قد يكون مخالفا للنظام العام الداخلي، فالنظام العام الدولي مشترك بين كل دول العالم، لذلك فالحكم التحكيمي الدولي يبطل إذا خالف النظام العام الدولي ولا يبطل حتما إن خالف النظام العام الداخلي، أما الحكم التحكيمي الداخلي فيبطله النظام العام الداخلي ولا حاجة لإدخال النظام العام الدولي()وبالرجوع إلى الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن والمخالف للنظام العام المغربي والرأي فيما نعتقد أنه يمكن استبعاده مادام أنه يمس المصالح العليا للمجتمع المغربي، رغم أنه صادر طبقا للاتفاقية دولية صادق عليها المغرب، ذلك أن الاتفاقات الدولية لا تعلو على الدستور الذي يحمي كيان المجتمع والدولة، غير أن هذه النقطة المتعلقة بالنظام العام الدولي أو الداخلي، تبقى في تقديرنا أمر مستبعد في النزاعات المتعلقة بالاستثمارات الأجنبية مادام أن الدولة المغربية لا يمكن لها أن توافق على شرط تحكيم يتعلق بمعاملة استثمارية تمس بالنظام العام للمجتمع المغربي. أما فيما يخص السر وراء استبعاد إمكانية بطلان حكم المركز على أساس سبب متعلق بالنظام العام، فقد أجاب عنه الدكتور جلال وفاء محمدين بالقول بأنه "أثناء المداولات التي أدت إلى إقرار الاتفاقية كان هناك رأي ينادي بإتاحة الفرصة للتخلص من الحكم التحكيمي الصادر عن المركز على أساس الدفع بالنظام العام Public Policy، على أن الرأي استقر على أن السماح بإثارة هذا الدفع من شأنه هدم كل ما قامت هذه الاتفاقية من أجله في سبيل تثبيت دعائم حكم التحكيم الصادر في منازعات الاستثمار بين الدول والمستثمرين الأجانب، ولذلك ظهرت الصبغة النهائية للاتفاقية خالية من أي دفع متعلق بالنظام العام"()وبخصوص إجراءات طلب إبطال الحكم وفقا لاتفاقية واشنطن، فإن الطلب حسب الفقرة الثانية من المادة 52 من الاتفاقية يقدم في ظرف 120 يوما من تاريخ اكتشاف ذلك السبب وعلى أي حال خلال 3 سنوات من تاريخ صدور الحكم
وفي حال تقديم طلب الإبطال فإن من ينظر بالطلب ليس المحكمة التي أصدرته وإنما يقوم رئيس البنك الدولي وفقا للفقرة الثالثة من المادة 52، بتعيين لجنة من ثلاثة أشخاص يختارون من قائمة المحكمين، ويكون لهذه اللجنة سلطة إبطال الحكم أو أي جزء من أجزائه، مستندا إلى أحد الأسباب التي ذكرنا سابقا والواردة في الفقرة الأولى من المادة 52، وعندها يعرض النزاع مجددا بناء على طلب أي من الطرفين، على محكمة جديدة ان تتكون وفقا لما نصت عليه الاتفاقية()إلا أنه لا يمكن أن يكون أحد أعضاء هذه اللجنة قد شارك في المحكمة التي أصدرت الحكم أو أن يكون من جنسية أحد طرفي النزاع أو من جنسية أحد المحكمين الذين سبقوا أن شاركو في إصدار القرار()ومن سلطات هذه اللجنة بالإضافة إلى إبطال الحكم أن تأمر بوقف تنفيذ الحكم بناء على طلب أو تلقائيا إذا دعت الظروف إلى ذلك
وبهذا فمن أهم مميزات تحكيم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، هي عدم إمكانية الاعتراض على الحكم التحكيمي أمام المحاكم الوطنية في المعاهدة المتعاقدة الطرف في النزاع أو غيرها، ولكن هذه الأحكام تبقى قابلة للإبطال أمام لجنة خاصة تعين لهذا ويعين محكميها من قائمة المحكمين في المركز()خاتمة
يمكن القول في نهاية هذا البحث ان التحكيم الدولي في منازعات الاستثمار الاجنبي امام مركز التحكيم الدولي بواشنطن اصبح واقعا ملموسا يفرض نفسه على معظم الدول النامية ،سواء التي سبقت ان وقعت عن اتفاقية واشنطن منذ زمن بعيد كالمغرب او التي كانت تاخذ التحكيم الدولي بشيئ من الحذر كدول امريكا الجنوبية ذات التوجه الاشتراكي
غير ان ما يمكن رصده بدراسة اتفاقية واشنطن هو ان هذه الاتفاقية تميزت عن غيرها من الاتفاقيات الدولية في مجال التحكيم ،فالتحكيم تحت مضلة مركز واشنطن لفظ منازعات الاستثمار يكفل للاطراف بعض المميزات كما راينا كالثقة المتوفرة في المحكيمن ، والحماية الدبلوماسية لدولة المستثمر الاجنبي عند تعنت الدولة المضيفة في تنفيذ الحكم ، كما ان الاتفاقية اسست على مبدا سلطان الارادة بحيث ان اتفاق الاطراف هو الواجب التطبيق على عملية موضوع النزاع
كما اعطت الاتفاقية للحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن قوة تنفيذية وحجية مرادفة يحوزها هذا الاخير بمجرد صدوره ولا يحتاج الى أي اجراء مماثل رغم النقيصة التي شابت الاتفاقية في المدة 55 بحيث سمحت للدول الاطراف ان ترفض تنفيذ الحكم التحكيمي على اساس اعتبارات السيادة وهذا الدفع قد ينجح في احيان كثيرة ، وعلى ذلك فاننا قد يجد المستثمر الاجنبي نفسه امام حكم تحكيمي صحيح ومعترف به ولكن من الناحية العملية يصبح معطلا ،مما قد يرغم المستثمر الاجنبي لطلب الحماية الدبلوماسية وما ينتج عن هذه الاخيرة من صراعات سياسية لا يحمد عقباها. لائحة المراجع
لما أحمد كوجان، التحكيم في عقود الاستثمار بين الدولة والمستثمر الأجنبي، بحث لنيل دبلوم دراسات عليا في قانون الأعمال، الجامعة اللبنانية، مكتبة زين الحقوقية والأدبية، 2008
حنان الإيماني ، " التحكيم في منازعات الاستثمار في ضوء اتفاقية واشنطن لسنة 1965 " ، رسالة لنيل دبلوم
الماستر في القانون الخاص ، جامعة القاضي عياض كلية العلوم الاقتصادية والقانونية والاجتماعية مراكش ، السنة الجامعية 2011.2010
جلال وفاء محمدين ، " التحكيم تحث مظلة المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار " دار الجامعة الجديدة للنشر ، الاسكندرية ، 1995
عبد اللطيف بو العلف ، التحكيم في منازعات الاستثمار ، مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية ، عدد 117 ، نونبر ـ دجنبر 2008
مصلح أحمد الطراونة، نطاق اختصاص المركز الدولي لتسوية المنازعات الناشئة عن عقود الاستثمار الأجنبي وفقا لاتفاقية واشنطن، نسخة الكترونية، دون ذكر المطبعة وتاريخ الطبعة
حسيني يمينة، تراضي الأطراف على التحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، مذكرة لنيل شهادة الماجيستر في القانون، كلية الحقوق والعلوم والسياسة، جامعة مولود معمري تيزي وزو، 2011
معمر نعمان محمد النظاري، التحكيم في منازعات الاستثمار بين القواعد التقليدية والحديثة، أطروحة لنيل الدكتوراه في
القانون الخاص، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، وجدة، السنة الجامعية 2011-2012 البشير أصوفي، خصوصيات التحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، جامعة الحسن الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سطات، السنة الجامعية 2008-2009
خالد ميمون، الطبيعة القانونية لعقود الاستثمار العمومية ومظاهر تأثرها بشرط التحكيم، مقال منشور بمجلة القضاء
المدني، ضمن سلسلة دراسات وأبحاث "الوسائل البديلة لتسوية المنازعات"، العدد 3،
فوزي محمد سامي، التحكيم التجاري الدولي، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الثانية 1992،
عبد الخلق الدحماني، ضمان التوازن المالي لعقود الاستثمار في إطار التحكيم الدولين مطبعة الأمنية، طبعة 2015
، محمد البرانصي، دور التحكيم التجاري الدولي في جلب الاستثمارات الأجنبية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، كلية الحقوق، سلا، السنة الجامعية: 2006/2007
سامي محمد عبد العال، دور القضاء والتحكيم الدولي في تسوية منازعات الاستثمار، بحث مقدم إلى مؤتمر كلية الحقوق، جامعة طنطا في الفترة من 29 إلى 30 / 4/2015
رفعت محمد عبد المجيد، مفهوم النظام العام وأثره في تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، دفاتر المجلس الأعلى العدد 7/2005
، عبد الحميد الأحدب، مفهوم النظام العام في التحكيم، المجلة المغربية للتحكيم التجاري، عدد 2، 2013
ولقد أدى غياب نظام قضائي متخصص لفض منازعات الاستثمار بين الدول والمستثمرين الأجانب إلى تدعيم وتأكيد الدور الفعال والمتزايد للتحكيم التجاري الدولي كوسيلة لتسوية منازعات الاستثمار، ومن هنا برز الدور المهم للاتفاقية التي عقدها البنك الدولي للإنشاء والتعمير في 18 مارس 1965 في واشنطن والتي أنشأ بموجبها مركزا دوليا متخصصا لفض منازعات الاستثمار بين الدول والمستثمرين الأجانب، والمعروف بالمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى المتعاقدة، وأيضا هناك غرفة التجارة الدولية بباريس(CCI)، وكذلك نجد اتفاقية نيويورك لسنة 1958 المتعلقة بالاعتراف وتنفيذ الأحكام التحكيمية الأجنبية، وغيرها من المراكز واتفاقيات التحكيم الدولية
كل هذه المراكز والاتفاقيات الدولية ساهمت في إيجاد أرضية للمستثمر تمكنه من الاستثمار خارج بلده بدون تردد، ولذلك حاولت مختلف التشريعات ومنها المغرب ملائمة قوانينها الداخلية مع هذه الاتفاقيات كما جاء به مثلا القانون 05-08 وخاصة في تنظيمه للتحكيم الدولي
وبالنظر إلى تعدد مراكز واتفاقيات التحكيم الدولية والتي لا يسعنا التطرق إلى أنظمتها جميعا في موضوعنا هذا، فإننا سنركز على اتفاقية واشنطن مع الإشارة في بعض الأحيان إلى بعض الاتفاقيات الأخرى وكذا مقتضيات القانون الدولي ذات الصلة بالموضوع
وتكمن أهمية موضوع التحكيم في منازعات الاستثمار الأجنبي –خاصة أمام مركز واشنطن- في اتساع مجال التحكيم في تسوية منازعات الاستثمار، إذ يكاد لا يخلو عقد أو اتفاقية استثمار ثنائية أو جماعية من إدراج اتفاق التحكيم كوسيلة ملائمة لتسوية هذه المنازعات
ومن هنا يطرح الإشكال التالي: ما مدى نجاح آلية التحكيم -أمام مركز واشنطن- في تسوية منازعات الاستثمار؟
وتتفرع عن هذا الإشكال الرئيسي تساؤلات أخرى، من هم أطراف منازعات الاستثمار؟ وما هي خصوصيات الإجراءات المتبعة لصدور الحكم التحكيمي؟ وما مدى فاعلية الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن؟
: وللإجابة عن هذه الإشكالات ارتأينا تقسيم هذا الموضوع إلى مبحثين
المبحث الأول: خصوصيات التحكيم في تسوية منازعات الاستثمار أمام مركز واشنطن
المبحث الثاني: الإجراءات المتبعة أمام المركز لصدور الحكم التحكيمي
المبحث الأول: خصوصيات التحكيم في تسوية منازعات الاستثمار أمام مركز واشنطن
يعتبر المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار من أكثر مراكز التحكيم تأثيرا على التوجهات الكبرى للقانون الدولي الاقتصادي عموما، والقانون الدولي للاستثمارات على وجه الخصوص، ويكمن الهدف من إنشاء مركز واشنطن في خلق جو من الثقة بين المستثمرين الأجانب والدول المضيفة، وكذا تشجيع تدفق رؤوس الأموال الأجنبية كخيار استراتيجي تبنته العديد من الدول النامية من أجل تنمية اقتصادها، الأمر الذي يعطي طبيعة خاصة ومنفردة لهذا النوع من التحكيم، خاصة من حيث الشروط التي ينبغي توافرها لانعقاد اختصاص مركز واشنطن سواء في أطراف اتفاق التحكيم أو في شكل هذا الاتفاق أو في طبيعة نزاعات الاستثمار موضوع هذا التحكيم
وبناء على ما سبق، سنتطرق في هذا المبحث إلى أطراف اتفاق التحكيم أمام مركز واشنطن في المطلب الأول، على أن نتناول في المطلب الثاني شكل اتفاق الأطراف على تحكيم المركز والطبيعة القانونية للنزاع
المطلب الأول : شروط اختصاص مركز واشنطن بالنظر في منازعات الاستثمار
بالرجوع إلى المادة 25 من اتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار فإن اختصاص المركز الدولي يمتد إلى أي نزاع قانوني ينشأ مباشرة عن أحد الاستثمارات، بين دولة من الدول المتعاقدة أو أحد الأقسام المكونة لها الذي تعينه تلك الدولة للمركز أو إحدى وكالاتها التي تعينها ، وبين أحد مواطني دولة أخرى متعاقدة
وهكذا فإن المادة أعلاه أكدت على وجود شرطين بخصوص الأشخاص أطراف المنازعة أمام المركز، ويتعلق الأمر بأن يكون أحد الطرفين دولة متعاقدة ( الفقرة الأولى )، وأن يكون الطرف الأخر مستثمرا أجنبيا ( الفقرة الثانية ( الفقرة الأولى : الدولة والمؤسسات التابعة لها كطرف في منازعات الاستثمار التي تعرض على التحكيم
ذهبت مجموعة من الاتجاهات الفقهية إلى اعتبار الدولة طرفا لا يجوز له أن يلجأ إلى التحكيم، إلا أن توجهات السياسات العمومية نحو جلب الاستثمارات الأجنبية سيجعل هذه الآراء تتغير ويحل محلها اتجاه آخر يمنح الدولة كطرف ذو طابع عام أهلية اللجوء إلى التحكيم ، وإن كان ذلك بشروط محددة إذا تعلق الأمر بوجودها كطرف في منازعات الاستثمار (أولا) ، إلا أن الدولة ليست هي الطرف الوحيد الذي يكون في منازعات الاستثمار التي تعرض على التحكيم ، إذ أن هناك مؤسسات تابعة لها تبرم بدورها عقودا مع أشخاص مستثمرين خواص وتضمنها شرطا بعرض النزاع الناشئ عنها على أنظار التحكيم .( ثانيا
( أولا : الدولة كطرف في منازعات الاستثمار التي تعرض على أنظار التحكيم
تعتبر الدولة شخصا من أشخاص القانون العام حيث هدفها هو تحقيق النفع العام ، لذلك فهي تتمتع بامتيازات السلطة العامة التي تتمثل في سلطة إصدار قرارات إدارية وسلطة التنفيذ الجبري
وحتى تتمكن الدولة من اللجوء إلى التحكيم في مركز واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار بين الدولة المضيفة للاستثمار والمستثمر الأجنبي ، يجب أن تكون هذه الدولة من الدول المتعاقدة في الاتفاقية
ولقد نشب الخلاف فيما إذا كان يجوز للدول غير المتعاقدة استعمال التسهيلات التي يقدمها المركز بصفة وقتية أو عارضة . ولقد استقر العمل على إمكان منح الدول غير المتعاقدة هذه الرخصة دون إعطائها الحق في الوقوف كطرف في تحكيم المركز
ويثور التساؤل عن متى تصبح الدولة طرفا متعاقدا في حكم الاتفاقية ؟
وبهذا الخصوص تنص المادة 68 من الاتفاقية على أنها تعتبر نافذة بالنسبة لكل دولة تودع وثائق تصديقها أو قبولها أو موافقتها على المعاهدة بعد ثلاثين يوما من هذا الإيداع
وعندما يقدم طلب التحكيم إلى المركز ، فإنه يتعين على السكرتير العام للمركز فحص ما إذا كان الطلب قد تم تقديمه بمعرفة دولة متعاقدة ، بحيث يجب عليه رفض تسجيل الطلب إذا ما قدم بمعرفة دولة غير متعاقدة
ولقد اقترح البعض أن يكون الميعاد المقرر لاعتبار الدولة المتعاقدة ، هو ميعاد ملء طلب التحكيم لدى السكرتير العام للمركز ، على أنه من الأفضل للدولة أن تكون قد أحذت خطوات الانضمام للاتفاقية عند التقديم لطلب التحكيم حتى يمكن ضمان استفادتها من خدمات المركز
وفيما يتعلق بتاريخ الانضمام للاتفاقية أثيرت مشكلة واحدة في قضية هوليداي إنز المتعلقة بالنزاع بين حكومة المغرب وشركة هوليداي إنز الأمريكية
فبعد النزاع الذي نشب بين الأطراف ، تقدمت الشركة التابعة لهوليداي إنز بطلب تحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ، ودفعت الحكومة المغربية بعدم اختصاص المركز ، لأن كل من دولتي المغرب وسويسرا عند توقيع عقد الاستثمار لم تكن طرفا في الاتفاقية المنشئة للمركز ، وإن كانتا قد انضمتا قبل تقديم المنازعة إلى المركز ، وقد اعتبرت حكومة المغرب أن التاريخ الذي يعتد به لعضوية الدولة في الاتفاقية هو تاريخ عقد الاستثمار نفسه والذي يحتوي على شرط التحكيم ، فيما اعتبرت شركة هوليداي إنز أن التاريخ الذي يعتد به هو تاريخ تقديم طلب التحكيم إلى المركز
وقد رفضت المحكمة ما جاءت به الحكومة المغربية من دفوع، معتبرة أن الإتفاقية سمحت للأطراف بتعليق شرط التحكيم حتى حدوث شرط معين كالانضمام للإتفاقية أو استنفاذ السبل الأخرى سواء القضائية أو الإدارية لحل النزاع ، وبأن التاريخ الذي يمكن فيه اعتبار الدولة متعاقدة ، وفقا لما يفهم من نصوص الاتفاقية ، هو التاريخ الذي يتحقق فيه رضاء الأطراف باللجوء إلى تحكيم المركز ، وقيام الدولة بطلب التحكيم من المركز
من خلال هذا الحكم يمكن القول أن التاريخ البات لاعتبار الاتفاقية نافذة في دولة ما ، وأن هذه الدولة أصبحت دولة متعاقدة ، هو التاريخ الذي يقدم خلاله طلب التحكيم إلى المركز
وتجدر الإشارة إلى أن الاتفاقية لم تصادق عليها كل الدول ، بل نجد دول من أمريكا اللاتينية استغنت عن التوقيع على اتفاقية واشنطن ، وذلك على اعتبار أن قوانينها تمنع الدولة وأشخاص القانون العام من اللجوء إلى التحكيم
وبخصوص المغرب فإنه صادق على اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار سنة 1966 وبالتالي فالدولة المغربية لها أهلية التحكيم أمام مركز واشنطن
إذن فالدولة غير المتعاقدة لن تكون لها إمكانية طلب التحكيم أمام مركز واشنطن لذلك فإنه من الواجب أن تنضم كافة الدول لهذه الاتفاقية ، وذلك لتشجيع الاستثمارات الأجنبية ، التي تساعد وتساهم في الدفع بالتنمية إلى درجة متقدمة
وبذلك فإن المنع الذي أقرته بعض الدول على أن توقع على الاتفاقية ، يبدو أمرا لا يخدم مصالح التجارة الدولية التي تعرف الآن حركة واسعة ، فالتوقيع على الاتفاقية تقرير لأهلية الدولة في إبرام عقود تجارية دولية ، تتضمن شرط التحكيم ، الشيء الذي يشجع المستثمر الأجنبي على الاستثمار بهذه الدولة
وبالتالي فإن أي دولة غير متعاقدة لا يمكن لها اللجوء إلى تحكيم مركز واشنطن حيث يشرط من أجل اللجوء إلى تحكيم المركز أن تكون الدولة متعاقدة كما يجب أن تكون الاتفاقية نافذة في حق الدولة التي ينتمي إليها المستثمر الأجنبي
ثانيا : المؤسسات التابعة للدولة كطرف في منازعات الاستثمار التي تعرض على أنظار التحكيم
إن اتفاقية واشنطن لسنة 1965 لم تجعل الدولة وحدها هي التي من حقها أن تطلب التحكيم أمام مركز واشنطن ، وإنما نصت على أن المؤسسات التابعة لها والمعنية من طرفها ، لها الحق أيضا في طلب التحكيم أمام المركز ، أي أن اختصاص هذا الأخير لا يقتصر على الدول المتعاقدة فقط وإنما يمتد إلى المؤسسات والوكالات التابعة لهذه الدول
غير أنه وإن كانت اتفاقية واشنطن قد خولت للمؤسسات التابعة للدولة والمعينة من طرفها أحقية التحكيم أمام المركز ، فإنما لم تحدد المقصود بهذه المؤسسات التابعة للدولة
والغاية من تحديد المقصود بالمؤسسات التابعة للدولة ، هي محاولة إيجاد تفرقة بين المؤسسات والمرافق التي تكون تابعة للدولة وتدخل في حكمها ، وهي بالتالي التي يكون لها الحق في طلب التحكيم أمام المركز ، أما المؤسسات التي تتمتع باستقلال عن الدولة فإنه ليس لها الحق في طلب التحكيم أمام المركز حيث بإمكانها والحالة هذه تلجأ إلى التحكيم أمام مؤسسة تحكيمية أخرى ، غير مركز واشنطن لتسوية خلافات الاستثمار
وفي هذا الإطار تعددت المعايير التي قال بها الفقه للقول بتبعية المؤسسات للدولة من عدمها، حيث ذهب بعض الفقه إلى الأخذ بمعيار تمتع المشروع العام بالشخصية القانونية المستقلة عن الدولة ، وفي هذا المعيار إذا كان المشروع العام يتمتع بشخصية قانونية مستقلة عن الدولة ، فإنه يخضع للقضاء الوطني ، أما إذا كان هذا المشروع لا يتمتع بالشخصية القانونية المستقلة عن الدولة وإنما يندمج في شخص الدولة ، فهو يتمتع بالحصانة القضائية ، وبالتالي لا يخضع لقضاء الدولة الأجنبية ، وبمواجهة هذا المعيار نشأ معيار آخر ومعاكس يعتبر أن المشروع العام التابع للدولة يتمتع بالحصانة القضائية بغض النظر عن تمتعه بشخصية قانونية مستقلة عنها ، على اعتبار أنه يعتبر مرفقا من مرافق الدولة ، وأن التصرفات التي يجريها تخدم مرفق عام من مرافق الدولة
وفي هذا الصدد يعتبر بعض الفقه أن هذا المعيار القائم على أساس التصرفات التي يجريها المشروع العام يتأثر بالاعتبارات السياسية كثيرا ، على اعتبار أن المشكلة التي يواجهها القاضي لتقرير الحصانة من عدمها ، لا تتوقف فقط على معرفة ما إذا كان التصرف محل المنازعة تصرف من تصرفات القانون العام ، أو من تصرفات القانون الخاص ، فعلى القاضي أن يقدر في البداية الأثر الذي سوف يتحقق على صعيد القانون الدولي العام ، وعلى علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر ، إذا قامت دولة القاضي بتقرير اختصاص محاكمها على التصرفات الصادرة من الدولة أو من إحدى الأجهزة التابعة لها ، وهذا الأمر يظهر بمقارنة الأحكام الصادرة في مثل هذه الحالات
وهكذا يمكن القول بأن المؤسسة إذا كانت تتمتع بشخصية قانونية مستقلة عن الدولة فإنها لا تعتبر مؤسسة تابعة لها ، إلا أن هذا المعيار غير كاف بحد ذاته ولا يمكن الاعتماد عليه منفردا لتحديد المؤسسات التابعة للدولة ، حيث توجد مؤسسات رغم أن الدولة منحتها استقلالا في شخصيتها القانونية وذمتها المالية فهي مع ذلك تعتبر من مؤسسات الدولة ، وهذا ما أكد عليه القرار التحكيمي الصادر من مركز واشنطن ، والذي صدر بناء على إثارة المغرب عدم اختصاص هذا المركز في قضية الشركة الإيطالية وشركة طرق السيارة بالمغرب ، في إطار هذه القضية احتج الطرف المغربي بالطابع الخاص للشركة المذكورة والتي تم تأسيسها في شكل شركة مجهولة الاسم والمتمتعة بذمتها المالية المستقلة وعلى اعتبار أن مساهمة الدولة في رأسمال الشركة لا يفقدها استقلاليتها عنها
إلا أن القرار التحكيمي ، رد على هذا الدفع واعتبره غير صائب وقضى بأنه تكون تابعة للدولة كل شركة تجارية تهيمن عليها الدولة أو تراقبها مباشرة أو بواسطة مؤسساتها ، وأحال القرار على اجتهاد تحكيمي سابق يربط المراقبة بمعيارين ، أحدهما هيكلي أو عضوي والذي يعني توافر مجموعة من العناصر المتكاملة والتي تساعد في الفصل في مسألة تبعية الجهاز للدولة ، وهذه العناصر تستشف من خلال النظام الأساسي أو القانون أو القرار أنشأ هذا الجهاز ، ومن هذه العناصر عنصر رأس المال في الجهاز وكيفية إدارته والأنظمة القانونية التي تحكم تصرفاته والوسائل المالية لتمويله . والآخر وظيفي يتصل بغايتها وأهدافها
وبما أن الدولة المغربية تهيمن على رأس المال ، وعلى مجلس إرادتها وبما أن غايتها تكمن في إحداث طرق السيارة واستغلالها والعناية بها بواسطة امتياز فقد انتهى القرار إلى اعتبارها شركة دولة تتصرف باسم الدولة
انطلاقا مما سبق يتبين أن تقدير أو تحديد مدى تبعية الجهاز أو المؤسسة المتعاقدة مع الطرف الأجنبي للدولة يتطلب وجود أكثر من عامل أو معيار للتأكد من هذه التبعية ، فالأشكال التي تتخذها هذه الأجهزة أو المؤسسات متعددة ومتنوعة ويجب أن لا ننسى السيطرة التي تمارسها الدولة على هذه الأجهزة سواء بنفسها أو عن طريق جهاز وسيط ، فهذه المؤسسات أنشئت خصيصا لتحل محل الدولة في إطار العلاقات الاقتصادية التجارية الدولية ، وتتصرف لحساب الدولة ولصالحها
وبقي أن نشير إلى أنه يمكن للمركز مد اختصاصه حول النزاع ، فلابد من مجموعة من الشروط والتي تنص عليها المادة 25 من الاتفاقية وتتمثل هذه الشروط التي تسمح للمؤسسات التابعة للدولة باللجوء إلى تحكيم المركز في :ما يلي
1 ـ أن يكون هذا الجهاز أو هذه الوكالة معينة للمركز من قبل الدولة المتعاقدة
2 ـ أن يكون هذا الجهاز أو هذه الوكالة تابع لدولة متعاقدة
3ـ أن يلتقي رضا هذا الجهاز أو هذه الوكالة باللجوء إلى تحكيم المركز ، مع قبول الدولة بمثل هذا الأمر ، إلا إذا أعلنت هذه الأخيرة للمركز عدم وجود حاجة إلى قبول مسبق منها
وموافقة الدول المتعاقدة على إخضاع المؤسسة أو الهيئة التابعة لها لاختصاص المركز يمكن أن تأخذ أشكال عديدة، فهذه الموافقة يمكن أن تكون في شكل شرط موجود في اتفاق مع الدولة المتعاقدة بمقتضاه توافق على إمكانية تقديم المنازعات الناشئة إلى المركز بواسطة هذه المؤسسة، كما يمكن أن تأخذ الموافقة شكل وثيقة تحتوي الرضا على التقديم إلى المركز بواسطة المؤسسة، وصحة هذه الموافقة تخضع لرقابة المركز لأنها تمس اختصاصه بنظر المنازعة
وبخصوص هذه الموافقة يثار التساؤل حول ما إذا كان يمكن للدولة سحب موافقتها على إمكانية لجوء المؤسسة أو الوكالة التي حددتها للمركز سابقا ، إلى المركز بهدف التحكيم ، فهل الأمر ممكن ؟
يجيب أحد الفقه على هذا التساؤل بقوله يمكن للدولة أن تسحب موافقتها على خضوع المؤسسة أو الوكالة التابعة لها لاختصاص المركز في أي وقت، وذلك لأن موافقة الدولة ما هي إلا تصرف بإرادة منفردة صادر عن الدولة المتعاقدة ، إلا أن هذه الإمكانية تصطدم بمبدأ حسن النية الذي يقف حائلا بوجه هذه الحرية المطلقة ، كونه يعتبر أن هذه الموافقة ملزمة ، ولا يجوز سحبها إذا كان الطرف الآخر في عقد الاستثمار قد تصرف على أساس وجود هذه الموافقة
والطرف الآخر في عقد الاستثمار في هذه الحالة ، وكما اشترطت اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار هو مستثمر أجنبي، ولكن هذا الأخير يجب أن يتمتع بشروط معينة حتى يتمكن من اللجوء إلى تحكيم المركز
الفقرة الثانية : المستثمر الأجنبي كطرف في منازعات الاستثمار المعروضة على التحكيم
أمام أزمة الثقة بين المستثمرين الأجانب والدول المضيفة للإستثمار وإزاء خوف المستثمرين من المخاطر التي قد تلحق باستثماراتهم ، والناتجة عن بعض التدابير الإدارية والسياسية والتشريعية التي قد تتخذها الدولة المضيفة للاستثمار ، فقد منحت اتفاقية واشنطن هؤلاء المستثمرين الحق المباشر باللجوء إلى التحكيم الذي يرعاه المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، دون أن يكونوا بحاجة إلى تدخل دولتهم أو إذنها في الإجراءات التحكيمية المتبعة، وذلك في المادة 25 من الاتفاقية والتي اعتبرت أن اختصاص المركز يمتد ليشمل أي نزاع قانوني بين دولة من الدول المتعاقدة أو أحد الأقسام التابعة لها، وبين أحد مواطني دولة أخرى متعاقدة ، وبصراحة هذه المادة فإن عبارة " مواطني إحدى الدول الأخرى المتعاقدة " تضم الأشخاص الطبيعيين وكذلك المعنويين
وبالتالي فإن الطرف الآخر في تحكيم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار يجب أن يكون طرفا مستثمرا أجنبيا من دولة أخرى سواء كان هذا المستثمر شخصا طبيعيا أو شخصا معنويا
أولا : المستثمر الأجنبي : شخص طبيعي
عرفت المادة 25 في الفقرة الثانية منها الشخص الطبيعي الذي يعتبر من مواطني دولة أخرى تابعة كما : يلي
" أي شخص طبيعي متعاقد يحمل جنسية دولة متعاقدة غير الدولة الطرف في النزاع ، في التاريخ الذي وافق فيه الطرفان على عرض النزاع للتوفيق أو طرحه على التحكيم ، وكذلك أيضا في التاريخ الذي سجل فيه طلب التوفيق أو التحكيم طبقا للفقرة 3 من المادة 28 على أن هذه العبارة لا تشمل أي شخص كان يحمل أيضا في أي من التاريخين جنسية الدولة الطرف في النزاع
وبالتالي فإن اتفاقية البنك الدولي التي تم بمقتضاها إنشاء مركز واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار ، لم تخول لكل شخص طبيعي مستثمر حق اللجوء إلى التحكيم ضد الدولة المضيفة للاستثمار ، وإنما اشترطت شروطا لابد من توفرها حتى يكون لهذا الشخص الطبيعي إمكانية طلب التحكيم أمام المركز ، الذي يعتبر الجهة الوحيدة المتخصصة في تسوية خلافات الاستثمار التي تنشأ بين الدول المتعاقدة والمستثمرين الأجانب سواء كانوا أفرادا أو شركات خاصة
وتتجلى هذه الشروط التي ينبغي توفرها في المستثمر الأجنبي الشخص الطبيعي من أجل أن يتمكن من الخضوع إلى تحكيم المركز في أن يتمتع هذا المستثمر بجنسية إحدى الدول الموقعة على الاتفاقية ، وأن تكون له جنسية إحدى الدول الموقعة على الاتفاقية في تاريخين محددين لا يغني أحدهما عن الآخر ، والشرط الأخير يتمثل في أن لا تكون له جنسية الدولة التي تعتبر طرفا في النزاع معه
: أـ أن تكون للمستثمر الأجنبي الشخص الطبيعي جنسية إحدى الدول الموقعة على الاتفاقية
بمعنى أن تكون هناك رابطة قانونية وسياسية بينه وبين إحدى الدول المتعاقدة ، وهو ما يعني أن الشخص الذي لا جنسية له لا يستطيع اللجوء إلى تحكيم المركز ، وإن كانت ترى إحدى الباحثات أن هذا الشرط سوف لن يخدم الأشخاص الطبيعية التي تستثمر في دول أخرى ، إذا كانت الدولة التي ينتمون إليها رفضت الانضمام إلى الاتفاقية ، وهذا لن يخدم التجارة الدولية التي عرفت ازدهارا كبيرا ، مادام هذا البند يحرم الأشخاص الذين لم تصادق الدول المنتمين إليها بجنسيتهم على الاتفاقية من حق اللجوء إلى التحكيم باعتباره من الضمانات المهمة التي تحمي المستثمر الأجنبي
ولقد أثار شرط الجنسية الذي تشترطه اتفاقية واشنطن العديد من الإشكالات أول هذه الإشكالات هي أنه إذا كان يتم تعيين جنسية الشخص الطبيعي طبقا للقواعد العامة للقانون الدولي بمقتضى القانون الداخلي الخاص بكل دولة ، فإنه هل سيكون المركز الدولي لتسوية خلافات الاستثمار مقيدا بالقرار الوطني المانح للجنسية للشخص الطبيعي أم لا ؟
وقد أجاب أحد الفقه على ذلك بأنه إذا كان من المتفق عليه أن المحكم ملزم بالقرار الصادر عن السلطات العمومية المختصة بمنح الجنسية ، أي أنه لا يستطيع مراقبة مشروعية أو عدم مشروعية منح أو رفض الجنسية ، إلا أن هذا لا يعني أن المحكم يمنع عليه مراقبة ما إذا كانت الشروط المتطلبة التي يستلزمها القانون الداخلي لمنح الجنسية متوافرة في القرار المحتج به أمامه
وهناك إشكال آخر يثار بخصوص جنسية الشخص الطبيعي ، ويتعلق بحالة ما إذا كان الشخص الطبيعي هذا يتوفر على أكثر من جنسية دولة متعاقدة ، فما المعمول في هذه الحالة ؟
في هذه الحالة أقر أحد الفقه بأنه لا مشكلة إذا كانت الدولتان اللتان يتمتع المستثمر بجنسيتهما دولتين متعاقديتن في الاتفاقية إذ لا يثار الشك والحالة هذه في حق المستثمر في التقدم بطلب التحكيم أمام المركز في هذا الفرض ، إلا أن الصعوبة تثار بالنسبة للشخص الطبيعي الذي يتمتع بجنسية دولة أخرى العضو في الاتفاقية
بمعنى أن الشخص الطبيعي المنتمي إلى جنسية دولة طرف في النزاع وفي نفس الوقت حامل لجنسية دولة أخرى متعاقدة لا يمكن أن يكون طرفا في تحكيم المركز
وعموما فإن شرط الجنسية الذي اشترطته الاتفاقية يهدف إلى تجنب وتفادي أية شروط اصطناعية يمكن من خلالها للشخص الطبيعي التوصل إلى اختصاص المركز كأن يقوم مثلا بتغيير جنسيته لكي يصبح داخلا في اختصاص المركز
:ب ـ أن تكون للمستثمر الأجنبي الشخص الطبيعي جنسية إحدى الدول المتعاقدة في تاريخين محددين
ويتعلق الأمر بالتاريخ الذي اتفق الأطراف لحل نزاعاتهم عن طريق التحكيم لدى المركز والتاريخ الذي سجل فيه طلب التحكيم لدى أمانة المركز العامة
وهكذا إذا توافرت الجنسية في أحد التاريخين فقط فإن ذلك يؤدي إلى نزع الاختصاص عن مركز واشنطن ، لأن الجنسية لم تتوفر له في التاريخين معا
وبالتالي فإنه من الضروري أن يمتد التمتع بجنسية الدولة المتعاقدة ما بين التاريخين والهدف من ذلك هو استبعاد تجنيس المجاملة التي يمكن أن تحدث لجعل المستثمر الذي ينتمي إلى دولة غير متعاقدة يستفيد من خدمات المركز ، بعد أن فقد جنسية الدولة المتعاقدة الأولى التي أبرم في ظلها اتفاق التحكيم مع الدولة المضيفة للإستثمار
: ج ـ أن لا تكون للشخص الطبيعي المستثمر جنسية الدولة التي تعتبر طرفا في النزاع معه
بمعنى إذا كان الشخص الطبيعي المستثمر يحمل جنسية الدولة الطرف في النزاع ، فإنه لا يمكن قبوله طرفا في تحكيم المركز ولو كان يحمل في نفس الوقت جنسية دولة أخرى متعاقدة، فالاتفاقية بإحداثها إجراءات للتحكيم بين المستثمر الخاص والدولة المضيفة ، لم ترد إحلال هذه الوسيلة محل وسائل التسوية الداخلية في ما بين الدولة ورعاياها
علاوة على ما تقدم فإن الشخص الطبيعي يجب أن يذكر صراحة عند تقدمه للمركز أنه لا يتمتع بجنسية الدولة الأولى الطرف في النزاع
بينما يكفي لتعتبر محكمة المركز مختصة أن يتمتع الشخص بجنسية أية دولة متعاقدة ، حتى ولو كان يتمتع بجنسية دولة أخرى ، سواء كانت متعاقدة أم غير متعاقدة ، ولكن المهم ألا تكون هذه الدولة الأخرى هي الطرف في النزاع ، والسبب في ذلك هو أن أهم ميزة من مميزات التحكيم في المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ، عدم وحدة جنسية أطراف النزاع
وفي ظل قواعد القانون الدولي ، فإن قانون الجنسية المدعى بها ، هو الذي يحدد ما إذا كان الطالب يتمتع بجنسية هذه الدولة أم لا . وفي الحالات التي يسكت فيها القانون الوطني ، فإن المحاكم تكون لها سلطة الفصل في موضوع الجنسية ، وغالبا ما تأخذ المحاكم في هذا الخصوص بما استقرت عليه محكمة العدل الدولية في قضية " نوتم " من أن الجنسية عبارة عن رابطة قانونية أساسها الصلة الواقعية بمجتمع معين ، أي أن المحاكم يمكن أن تأخذ بمعيار الصلة الفعلية لتقرير موضوع الجنسية
ثانيا : المستثمر الأجنبي : شخص معنوي
يتمثل الهدف الأساسي لاتفاقية واشنطن ، في مساعدة المجتمع الدولي على تحقيق التنمية والتطور الاقتصاديين ، حيث تم وضعها من أجل توفير مناخ ملائم للاستثمارات الدولية ، حسب ما ورد في تصديرها ، الذي نص على أنه " مراعاة لضرورة التعاون الدولي لأجل التنمية الاقتصادية والدور الذي يمكن أن تلعبه الاستثمارات الخاصة الدولية "وإدراكا لهذا الهدف فإن الاتفاقية نصت على شروط ينبغي توفها في المستثمر الخاص الشخص المعنوي حتى يمكنه اللجوء إلى التحكيم ، وتتميز هذه الشروط بالمرونة لأنها وإن كانت تشددت مع المستثمر الخاص الشخص الطبيعي ، فهذا لا أهمية له من الناحية العملية ، لأن معظم إن لم تكن كل الاستثمارات التي تتم في البلدان النامية يقوم بها أشخاص معنويون وخصوصا شركات الأموال
وهذه الشروط أشارت إليها الفقرة الثانية من المادة 25 من الاتفاقية والتي تنص على ما يلي : " كل شخص معنوي كانت له جنسيته دولة متعاقدة ، غير الدولة الطرف في النزاع ، في التاريخ الذي وافق فيه الطرفان على عرض النزاع للتوفيق ، أو طرحه على التحكيم ، وأيضا أي شخص معنوي كانت له في ذلك التاريخ جنسية الدولة الطرف في النزاع ، لكن اتفق الطرفان على اعتباره بمثابة رعية لدولة متعاقدة أخرى ، بسبب خضوعه لرقابة مصالح أجنبية"
: من خلال النص أعلاه يظهر أن شروط لجوء المستثمر الشخص المعنوي إلى التحكيم ، تتمثل في ما يلي
: أـ تمتع الشخص المعنوية بجنسية دولة متعاقدة في الاتفاقية غير الدولة الطرف في النزاع
بخصوص هذا الشرط فإن تمتع الشخص المعنوي بجنسية الدولة المتعاقدة ليس إلزاميا إلا في التاريخ الذي اتفق الأطراف على إخضاع النزاع إلى تحكيم المركز ، على خلاف ما هو عليه بالنسبة للشخص الطبيعي الذي يقتضي أن بتوفر فيه هذا الشرط وأن يستمر في توفره إلى تاريخ تسجيل هذا التحكيم
وانطلاقا مما سبق يتبين أن الاتفاقية تساهلت بخصوص الشرط السابق ذكره ، مع المستثمر الخاص الشخص المعنوي ، نظرا لكون هذا الأخير هو الذي يقبل على الاستثمار بكثرة عبر الحدود ، غير أن هناك من الباحثين من يرى أن هناك حاليا من المستثمرين الأشخاص الطبيعيين من لديه إمكانيات مادية وتقنية تضاهي أو تفوق إمكانات الأشخاص المعنوية ، لذلك ينبغي إقرار المساواة في هذه النقطة بين المستثمرين سواء كانوا أشخاص طبيعيين أو معنويين ، وذلك تشجيعا للتجارة الدولية عبر الحدود مما يحقق التنمية والتعاون الاقتصاديين اللذان تهدف إليهما الاتفاقية
ب ـ الشرط الثاني الذي ينبغي توفره في الشخص المعنوي ، حتى يلجأ إلى التحكيم هو أن هناك اتفاق بينه وبين الدولة الطرف في النزاع ، يقضي باعتبار هذا الشخص ينتمي بجنسيته إلى دولة متعاقدة أخرى إذا كان يخضع إلى رقابة تمارسها عليه مصالح أجنبية
هذا وقد احتوى مشروع الاتفاقية نصا يقضي بأن الأشخاص الاعتباريين والتي لها جنسية الدولة المضيفة للاستثمار ، يمكن أن تعتبر " مواطن أو ذات جنسية لدولة أخرى متعاقدة فقط على أساس الاتفاق بين الأطراف
وتتعلق هذه المسألة ، بالحالة التي يكون فيها المستثمر الشخص المعنوي ينتمي بجنسيته إلى الدولة الطرف في النزاع ، حيث تساهلت معه هنا اتفاقية واشنطن في اللجوء إلى التحكيم، عكس الشخص الطبيعي إذ اشترطت أن يبرم اتفاقا مع الدولة الطرف في النزاع يقضي باعتباره رعايا دولة متعاقدة أخرى إذا كان تحت رقابة مصالح أجنبية
وتجدر الإشارة إلى أن شرط الاتفاق ، يثير إشكالا حول ما إذا كان يتطلب أن يكون اتفاقا صريحا أم اتفاقا ضمنيا ؟
فالاتفاقية تحدثت عن اتفاق بين الشخص المعنوي والدولة الطرف في النزاع ، على اعتباره ينتمي بجنسيته إلى دولة أخرى حتى يكون بإمكانه اللجوء إلى التحكيم إذا كانت هناك مصالح أجنبية تمارس الرقابة عليه ، ولم تبين هل يشترط أن يكون هذا الاتفاق اتفاقا صريحا أم اتفاقا ضمنيا؟
في هذا الإطار اتجهت هيئات التحكيم إلى اتجاهين : اتجاه أول اشترط الاتفاق الصريح على ثبوت الجنسية كما في قضية هوليداي إنز ضد المغرب ، واتجاه ثان اكتفى بأن يكون الاتفاق ضمنيا بأن تكون هذه الجنسية مستفادة من الظروف المحيطة كما في قضية أمكواسيا ضد أندونيسيا
بناء على ما تقدم نرى أن اتفاقية واشنطن تساهلت كثيرا مع الشخص المعنوي المستثمر مقارنة مع الشخص الطبيعي المستثمر ، سواء فيما يتعلق بتاريخ انتمائه إلى جنسية دولة أخرى متعاقدة ، أو في ما يتعلق باشتراط اتفاق فقط بينه وبين الدولة الطرف في النزاع
غير أنه بالرغم من هذه التسهيلات التي يتمتع بها الشخص المعنوي في ظل اتفاقية واشنطن ، فإنه هناك صعوبات تتمثل أساسا في صعوبة تثور بالنسبة للمشروعات المشتركة التي توجد فيها أقلية أو مساواة لرأس المال ، وفي هذه الأحوال يجب تقدير فكرة الرقابة ففي كثير من الأحوال ، فإن المشاركة في رأس المال وحدها لا تصبح معيارا محددا لفكرة السيطرة ، حيث يمكن لطرف له أقلية المشاركة المالية أن تحكم في المشروعات بسبب تمتعه بسيطرة من الناحية الإدارية أو الفنية
وبالتالي فعدم وضع تعريف محدد لما يشكل السيطرة الأجنبية ، يعطي الحق للأطراف في عقد الاستثمار الحرية في تحديد ما قد يشكل هذه السيطرة من الناحية المالية أو الإدارية أو من الناحية الفنية ويعطي لمحكمة التحكيم أن تبت في هذه المسألة بسلطة واسعة إذا عرضت عليها
لا يكفي لاختصاص مركز واشنطن بنظر النزاعات التي تعرض عليه، توافر الشروط التي تتطلبها الاتفاقية في صفة أطراف النزاع، بل يجب أن يكون هناك اتفاق صريح بين الأطراف وأن يعبروا عن إرادتهم في اللجوء إلى التحكيم، حيث يعتبر رضاء الأطراف باللجوء للتحكيم أمام مركز واشنطن هو الأساس لاختصاصه، أي أنه لا يمكن أن ينظر المركز في النزاع دون أن يوافق طرفا النزاع على عرضه أمامه، غير أن المركز أظهر توسيعا كبيرا على شكل اتفاق الأطراف في اتجاه عقد الاختصاص لنفسه ولو بدون وجود الاتفاق بين الأطراف على الأقل بالشكل التقليدي. كما أن للتحكيم أمام مركز واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار خصوصيات تظهر على مستوى طبيعة النزاعات المعرضة عليه
وعليه، سنتناول في الفقرة الأولى شكل اتفاق الأطراف على التحكيم أمام مركز واشنطن، على أن نخصص الفقرة الثانية للحديث عن طبيعة النزاعات المعروضة على مركز واشنطن
الفقرة الأولى: شكل اتفاق الأطراف على التحكيم أمام مركز واشنطن
لقد أصبح التحكيم أمام مركز واشنطن متميزا عن المفهوم التقليدي للتحكيم، إذ أن الاختصاص بهذا النوع من التحكيم مستمد من معاهدات واتفاقيات ثنائية (bit’s) أو جماعية (mit’s) في حين مصدر التحكيم الدولي هو اتفاقات خاصة
وبالرجوع إلى الفقرة الأولى المادة من 25 من اتفاقية واشنطن التي تنص على أنه "يمتد اختصاص المركز إلى المنازعات ذات الطابع القانوني التي تنشأ بين دولة متعاقدة وبين أحد رعايا دولة متعاقدة أخرى والتي تتصل اتصالا مباشرا بأحد الاستثمارات، بشرط أن يوافق أطراف النزاع كتابة على طرحها أمام المركز، وعندما يعطي الطرفان موافقتهما لا يجوز لأحدهما أن يسحب موافقته بإرادته المنفردة". فمن خلال هذه المادة يعتبر رضا الأطراف باللجوء للتحكيم أمام مركز واشنطن هو الأساس لاختصاصه، أي أنه لا يمكن أن ينظر المركز في النزاع دون أن يوافق طرفا النزاع على عرضه على المركز، وبالإضافة إلى ذلك فإنه عندما يقبل الطرفان اللجوء إلى تحكيم المركز فإن هذا الرضا لا يمكن لأي من الطرفين الرجوع عنه، حتى ولو كان أحد الاطراف المتنازعة قد انسحب من الاتفاقية، فلا يؤثر في صحة الرضا انسحاب الدولة المستقبلة للاستثمار أو دولة المستثمر من الاتفاقية
غير أن الاتفاقية اشترطت أن تتم الموافقة كتابة دون تحديد شكل معين للكتابة، فالعبرة بدلالتها الواضحة على الرضا باللجوء إلى تحكيم المركز، إذ يجوز للأطراف اختيار أحد شروط التحكيم النموذجية التي يتم إعدادها من قبل المركز، أو التعبير عن رضاهم في اتفاق الاستثمار سواء في صورة شرط أو عقد التحكيم، كما قد يأخذ رضا الدولة باختصاص المركز شكل معاهدة ثنائية أو جماعية، وقد تسعى بعض الدول إلى جلب المزيد من الاستثمارات من خلال النص في تشريعاتها الداخلية على قبول اللجوء إلى المركز
هذا التعدد في أسس ثبوت الاختصاص لمركز واشنطن يعكس مدى التوجه الجديد لهيئات تحكيم المركز من أجل خلق الاختصاص لنفسها ولو بدون وجود الاتفاق، حيث يكتفي لتقرير اختصاصه بنظر النزاع بوجود نص يشير إلى التحكيم، إما في تشريع وطني للاستثمار في الدولة المضيفة،أو في اتفاقية للاستثمار سواء كانت ثنائية أو متعددة الأطراف، وذلك إذا ما لجأ المستثمر إلى طلب التحكيم أمام المركز معتبرة التراضي موجود في هذه الحالة، لأن الدولة حين نصت في تشريعها الوطني أو في اتفاقية الاستثمار على إحالة نزاعاتها مع المستثمرين الأجانب إلى تحكيم المركز، تكون قد أعطت موافقتها ورضاها في قبول التحكيم، وأن المستثمر يعبر عن قبوله بتقديمه لطلب التحكيم وذلك استنادا إلى أن تقرير المديرين التنفيذيين يذهب إلى أن الاتفاقية لا تفرض أن يتم التراضي في عمل قانوني واحد لكي ينعقد الاختصاص للمركز
ومن الآثار المترتبة على هذه الأساليب الجديدة إحالة المنازعات بشكل منفرد من قبل المستثمر للتحكيم أمام هيئة تحكيم مركز (ICSID) بواشنطن، على أساس تشريعات الاستثمار أو اتفاقيات حيث لا يحتاج المستثمر إلى وجود اتفاق تحكيم، أو حتى علاقة تعاقدية مع المدعى عليه، وحيث تكون الدولة المدعى عليها ألزمت بالتحكيم دون أن تكون قادرة على بدء التحكيم، أو حتى تقديم دعوى مقابلة، وهو ما يطلق عليه التحكيم بدون اتفاق
والمشرع المغربي من خلال القانون رقم 18-95 المتعلق بميثاق الاستثمار نص في الفقرة الثانية من المادة 17 على أنه " يمكن أن تتضمن العقود المشار إليها أعلاه بنودا تقضي بفض كل نزاع قد ينشأ بين الدولة المغربية والمستثمر الأجنبي بخصوص الاستثمار وفقا للاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب في ميدان التحكيم الدولي"، والمبدأ أن البند الذي يحتويه قانون الاستثمار الوطني للدولة المغربية يمثل مجرد إيجاب من جانبها ولا يتحول إلى رضاء باللجوء إلى التحكيم أمام المركز إلا إذا أعلن المستثمر الأجنبي عن رغبته في الاستفادة من هذا الشرط
وأتيحت الفرصة للمحاكم لإتباع هذا الأسلوب في جلب الاختصاص للمركز لأول مرة استنادا على الإيجاب العام للدولة المضيفة للاستثمار المضمن في قانونها الداخلي في قضية هضبة الأهرام، فقد تقدمت شركة (SPP) Soutern pacific properties limited بطلب للتحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ليتولى حل نزاعها مع الحكومة المصرية، وإلزام هذه الأخيرة بدفع التعويض نتيجة قيامها بإلغاء مشروع هضبة الأهرام
واستندت شركة SPP في طلب التحكيم الذي تقدمت به، إلى المادة 8 قانون الاستثمار المصري رقم 43 لسنة 1974، والتي تنص على أنه " تتم تسوية منازعات الاستثمار المتعلقة بتنفيذ هذا القانون بالطريقة التي يتم الاتفاق عليها مع المستثمر أو في إطار الاتفاقيات السارية بين جمهورية مصر العربية ودولة المستثمر، أو في إطار اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطن الدول الأخرى التي انضمت إليها مصر بموجب القانون رقم 90 لسنة 1971 في الأحوال التي تسري فيها". وقد دفعت الحكومة المصرية بعدم اختصاص المركز، استنادا إلى أن ثبوت الاختصاص لهذا الأخير يقتصي اتفاق الأطراف وتراضيها على الخضوع لتحكيم المركز، وأن التحديد الوارد بالمادة 8 يعد مجرد تعداد للطرق المحتملة لحل المنازعات، يمكن عرضها للمفاوضة بين المستثمر والحكومة وهو تحديد غير ملزم وغير تدريجي. وعلى خلاف ذلك ذهبت الشركة المدعية إلى أن المادة 8 حددت على نحو تدريجي وملزم كيفية حل المنازعات الناشئة عن الاستثمار. وقد أيدت هيئة التحكيم حجج الشركة المدعية، مادام لا يوجد اتفاق بين الأطراف على الوسيلة التي يمكن من خلالها حل النزاع، وبأنه لا توجد اتفاقية ثنائية بين مصر ودولة المستثمر، ومن ثم فإن نص المادة 8 من قانون الاستثمار المصري يشكل قبولا صريحا ومكتوبا من الجانب المصري باختصاص هيئة تحكيم المركز
هكذا فقد فتحت هيئة التحكيم التي أعلنت أنها مختصة للفصل في هذه القضية على أساس تشريع الاستثمار المصري، الباب أمام توسع كبير في تحكيم المركز لتغطية الحالات أو القضايا التي جاءت خالية من اتفاق التحكيم بالمعنى التقليدي، حيث يتعامل المستثمر الأجنبي مع النص التشريعي على أنه إيجاب مفتوح يقبله لمجرد طلب التحكيم أمام المركز
ومن بين المنازعات الأخرى التي عرضت على هيئات تحكيم المركز والتي عقدت الاختصاص لنفسها بناء على اتفاقية ثنائية للاستثمار، المنازعة بين جمهورية سريلانكا وشركة المنتجات الزراعية (AAPL) التابعة لهونغ كونغ، وتتمثل وقائع هذه القضية في قيام الشركة المذكورة بالاستثمار في جمهورية سريلانكا، وتعرضت أموال الشركة للنهب، فتقدمت الشركة المعنية بطلب التحكيم أمام المركز تدعي فيه مسؤولية سريلانكا عن الأضرار التي لحقت منشآتها نتيجة العملية العسكرية التي قادتها قوات الجيش النظامي ضد المتمردين الذين لجأوا إلى مركز الشركة للاختباء فيه، وطلبت الشركة الحكم لها بالتعويض عن الضرر الذي لحق بها وقد اعتمدت الشركة في طلبها على المادة 8 من الاتفاقية الثنائية المبرمة بين بريطانيا وسريلانكا والتي تم تمديد مفعولها إلى هونغ كونغ بتبادل المذكرات بين الدولتين، وقد تم قبول الطلب من المركز في غياب أي اتفاق تحكيمي
وقد تأكد هذا الاتجاه في عدة قضايا أخرى لاحقة، من أبرزها، قضية الشركة الإيطالية ساليني ضد الدولة المغربية، وهي القضية التي خرقت فيها هيئة التحكيم عقد الإستثمار بشكل واضح من أجل الاعتراف لنفسها بالاختصاص، ذلك أن عقد الاستثمار من خلال دفتر التحملات يخضع كافة المنازعات المحتملة إلى اختصاص المحكمة الإدارية بالرباط، غير أن الشركة المعنية لجأت إلى رفع دعوى "طلب" أمام المركز استنادا إلى الفقرة الثانية من المادة 8 من اتفاقية الاستثمار الثنائية المبرمة بين المغرب وإيطاليا سنة 1990ن والتي تمنح المستثمر الأجنبي الخيار بين إجراءات التقاضي الداخلية أو اللجوء إلى التحكيم في إطار المركز
وقد دفعت الحكومة المغربية بعدم اختصاص المركز على أساس أن الشركة المدعية تخلت عن حقها في الاحتكام إلى المركز عندما قبلت بالإحالة في عقد الاستثمار على المحاكم الوطنية، وقد ردت هيئة التحكيم على ذلك بأن المادة 25 (الفقرة1) من اتفاقية واشنطن تقضي بأن الدول الأطراف تعبر كتابة عن قبولها لاختصاص المركز، ويمكن أن يتجسد هذا القبول من خلال ثلاثة مصادر: عقد استثمار أو تشريع داخلي أو اتفاقية الاستثمار، وفي الحالة موضوع الخلاف، فإن المادة 8 (الفقرة2) من اتفاقية الاستثمار المبرمة بين المغرب وإيطاليا تمنح المستثمرين اختيارا غير مشروط يتمثل في رفع دعاويهم إما أمام المحاكم الوطنية، وإما بين يدي محكمة تحكيم يتم إحداثها لهذه الغاية أو أخيرا يمكن الالتجاء إلى تحكيم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، وتبعا لذلك لا يكون استنفاذ طرق الطعن الداخلية أمرا لازما، وإذا كان المغرب قد وافق على هذه المادة، فإن الاحالة على محكمة إدارية وطنية في عقد الاستثمار لا يتعين أن تعتبر في حد ذاتها بمثابة تنازل الأطراف عن الخيارات التي تتضمنها الاتفاقية الثنائية للاستثمار، وتبعا لذلك فإن قبول المغرب لاختصاص المركز يحظى بالأسبقية حتى في حالة رفع دعوى أمام هيئة قضائية داخلية
إذن يتضح من خلال الحيثيات التي عللت بها الهيئة ثبوت اختصاصها هي تبريرات محل نظر، وكأن هيئة التحكيم تثبت الاختصاص لنفسها في جميع الأحوال، ذلك أنه إذا كان صحيحا أن المادة 8 من الاتفاقية الثنائية التي تمنح المستثمر الأجنبي الخيار بين المحاكم الوطنية أو اللجوء إلى مركز واشنطن، فإن قبول الشركة المدعية في عقد الاستثمار لاختصاص المحكمة الإدارية بالرباط هو ذاته إعمالا لذلك الخيار وبالتالي لا يجوز الرجوع عنه، تطبيقا لمبدأ من اختار لا يرجع
الفقرة الثانية: طبيعة النزاعات المعروضة على مركز واشنطن
نصت المادة 25 من اتفاقية واشنطن في فقرتها الأولى على أنه "يمتد اختصاص المركز إلى المنازعات ذات الطابع القانوني التي تنشأ بين دولة متعاقدة وأحد رعايا دولة متعاقدة أخرى، والتي تتصل اتصالا مباشرا بأحد الاستثمارات"ويتبن من هذه المادة أن الاتفاقية حاولت تحديد نطاق الاختصاص الموضوعي لمركز واشنطن، ويتعلق الأمر بتوفر شرطين هما: وجود منازعة ذات طابع قانوني ونشوء المنازعة بشأن الاستثمار، لذلك نتساءل عن المقصود بالمنازعات ذات الطابع القانوني؟
وقد ذهب أحد الباحثين إلى أن المقصود به هو أن هذا النزاع "المنازعة" يجب أن يكون قابلا للتسوية عبر تطبيق قواعد القانون الدولي، وبالتالي يخرج أي نزاع لا يقبل هذه التسوية عن اصطلاح النزاع القانوني، وبهذا لا يشمل هذا الاصطلاح النزاعات السياسية والنزاعات التي لا يوجد بشأنها قاعدة قانونية دولية تطبق
بينما ذهب البعض الآخر إلى أن المقصود به هو استبعاد جميع الخلافات ذات الطابع السياسي والاقتصادي، كتلك المنازعات المتعلقة بالتأميم ونزع الملكية وغيره
من الإجراءات الانفرادية للدولة، لكن دون أن يمنع ذلك اختصاص المركز بالنظر في النزاع المتعلق بالتعويض عن الأضرار الناتجة عن هذه الإجراءات. لكن هذا التوجه لم يسلم من الانتقاد، إذ اعتبر البعض أن حصر اختصاص المركز في الخلافات القانونية لا يلائم منازعات الاستثمار، لأن الطابع السياسي هو الذي يغلب عليها في كثير من الأحيان، لكون هذه المنازعات لا تثار إلا بسبب الرغبة في تغيير الوضعية الاقتصادية للدولة
غير أن مثل هذا التمييز بين منازعات تدخل أو لا تدخل في إطار المنازعات ذات الطابع القانوني لن يأخذ أهمية كبيرة في حالة اتفاق الدولة والمستثمر الأجنبي على ماهية المنازعات التي يمكن إخضاعها لاختصاص المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، بينما تكبر أهميته وتزداد في حال خلو الاتفاق بين الطرفين على هذا التحديد
كما أنه يلاحظ من ناحية أخرى رغم اشتراط الاتفاقية ارتباط المنازعة ارتباطا مباشرا بأحد الاستثمارات فإنها لم تحدد مفهوم الاستثمار ذاته، وهو التحديد الذي اعتبره البعض ليس ضروريا مادام أن الاتفاقية قد خولت للدول المتعاقدة إمكانية التحديد المسبق لأنواع الخلافات التي تقبل عرضها على تحكيم المركز، وذلك من خلال الفقرة الأخيرة من المادة 25 التي تنص على أنه "يجوز لأي دولة متعاقدة، أثناء التصديق على هذه الاتفاقية أو قبولها أو إقرارها، أو في أي وقت لاحق، أن تخطر المركز بأنواع المنازعات التي ترغب في إخضاعها أو عدم إخضاعها للمركز..."إلا أن الاشكال يطرح عندما لا تحدد الدولة المضيفة مسبقا أنواع هذه المنازعات، وهو ما دفع بعض الفقه إلى وضع معايير مختلفة لإضفاء الصبغة الاستثمارية على المنازعة، فهناك المعيار الشخصي الذي يقوم على إرادة الأطراف لاعتبار عملية اقتصادية ما ذات طابع استثماري، أي أن للأطراف سلطة تقديرية واسعة في تقرير ما إذا كانت المعاملة تعتبر استثمارا، بل إن مجرد إدراج الأطراف لشرط تحكيم المركز في عقد الاستثمار، يفيد أن العملية هي عملية استثمارية
أما المعيار الآخر فهو معيار موضوعي، يعتبر أن مفهوم الاستثمار يتضمن العديد من الأنشطة المرتبطة بالجوانب الاقتصادية وتتخذ طبيعتها الاستثمارية بالنظر إلى مجموعة من العناصر كمدة المشروع، إذ يتعين أن تستغرق العملية الاستثمارية مدة من الزمن لا تقل عن سنتين، ومعيار المخاطر، فيجب أن يتحمل المستثمر جزء من المخاطر بحيث لا يمكن أن تتحمل دولة الاستقبال مخاطر مرتبطة بقرارت تندرج بحكم طبيعتها ضمن التسيير العادي للمقاولة، إضافة إلى هذا يجب أن تحقق العملية الاستثمارية مساهمة في التنمية الاقتصادية للدولة المستقبلة للاستثمار
وقد أثير هذا الموضوع أمام مركز واشنطن في قضية ساليني ضد المملكة المغربية، إذ دفعت هذه الأخيرة بعدم اختصاص المركز، لأن النزاع لا علاقة له بصفة مباشرة بالاستثمار، فالأمر يتعلق ببناء طريق سيار بين فاس والرباط. إلا أن محكمة التحكيم ردت هذا الدفع، واعتبرت أنها مختصة للبت في المنازعة خاصة وأن المعرفة (Know-How والتجهيز والعاملين والتمويل هي عناصر يتم تكييفها على أنها مساهمة في التنمية الاقتصادية للدولة المضيفة، وتكون بذلك قد أعطت لمفهوم الاستثمار معنى أكثر ليونة، وهو يدخل في إطار التوجه اللبرالي لقضاء التحكيم الذي يميل إلى توسيع اختصاص مركز واشنطن في جميع العمليات الاقتصادية
كما أنه يطرح التساؤل حول طبيعة التحكيم أمام مركز واشنطن في منازعات الاستثمار الأجنبي، فهل هو تحكيم ذو طابع دولي في جميع الأحوال أم أنه يمكن أن يكون تحكيما وطنيا؟
بخصوص موقف المشرع المغربي فيتميز بالغموض بشأن المعيار الذي تبناه لإضفاء الصفة الدولية على التحكيم
أما بالنسبة للفقه فقد أخذ بمعيارين للقول بدولية التحكيم من عدمه وهما؛ المعيار الاقتصادي والذي يضفي الصبغة الدولية على التحكيم إذا كان متعلقا بمصالح التجارة الدولية أي أن التحكيم يكون دوليا عندما يكون موضوع العقد يتعدى حدود أكثر من دولة واحدة، أما المعيار الثاني فهو ذاتي أو شخصي، والذي يرتبط أساسا بجنسية أطراف التحكيم
وبالرجوع إلى الفصل 40-327 من قانون المسطرة المدنية أنه أخذ بالمعيارين السابقين معا، لكن هل هذين المعيارين متلازمان أم أن توافر أحدهما يكفي لإضفاء الصفة الدولية على التحكيم؟ خاصة وأن المشرع قد استعمل واو العطف وبالنظر إلى أن التحكيم في منازعات الاستثمار أمام مركز واشنطن يكون فيه بالضرورة مستثمر أجنبي وهو شخص مقره بالخارج ويشترط فيه أن يكون حاملا لجنسية دولة أخرى فإنه يمكن القول أن التحكيم الذي يكون فيه كطرف مع الدولة المضيفة للاستثمار يعتبر تحكيما دوليا على هذا الأساس، وإن كان موضوع الاستثمار الأجنبي لا يتعلق في جميع الأحوال بمصالح التجارة الدولية
ومن خصوصيات تواجد الدولة أو أحد أجهزتها كطرف في عقود الاستثمار مع المستثمرين الأجانب أن أغلب المنازعات المتعلقة بهذه العقود ترتبط بتغيير الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المصاحبة لنشأتها، أخذا بهذه الاعتبارات فإن عقود الاستثمار غالبا ما تتضمن برغبة من المستثمر ما يعرف بشروط الثبات والاستقرار، والتي تهدف إلى منع الدولة من المساس بالعقد بإرادتها المنفردة، مستغلة في ذلك ما تتمتع به من امتيازات يمنحها لها القانون الداخلي بوصفها سلطة تنفيذية أو إدارية، غير أن الانتقاد الموجه لشروط الثبات وما تنطوي عليه من مساس بمبدأ سيادة الدولة، أدى إلى تضمين عقود الاستثمار شروطا لإعادة التفاوض، ومن ثم تقع داخل اختصاص المركز
كما أن من خصوصيات منازعات الاستثمار التي يختص بها مركز واشنطن للتحكيم الدولي تكون مرتبطة أساسا بتغيير الظروف الاقتصادية مما قد يترتب عليها اختلال التوازن الاقتصادي لعقد الاستثمار كما هو الشأن بالنسبة للقوة القاهرة، إذ أصبح التحكيم القضاء الملائم للنظر في منازعات الاستثمار المترتبة عن القوة القاهرة، فأطراف عقد الاستثمار لا يودون في الغالب إنهاء رابطتهم العقدية لمجرد تعرضهم لمثل هذه الظروف والتصرفات وإنما قد يجيدون من المناسب أكثر أن يعيدو النظر في هذه الرابطة لتصبح أكثر توافقا مع الظروف الجديدة ولينطلق تعاونهم من جديد على أساسه في مناخ يتسم بالودية أكثر منه ندية
المبحث الثاني: الإجراءات المتبعة أمام المركز لصدور الحكم التحكيمي
إن عملية التحكيم أمام مركز واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار، يمر عبر العديد من المراحل، وهذه المراحل تبتدئ بتقديم طرفي النزاع لطلب التحكيم لدى السكرتير العام للمركز كمرحلة أولية ويتم اختيار المحكمين وبصفة عامة تشكيل الهيئة التحكيمية ومناقشة القضية وهذه المرحلة يمكن تسميتها بالمرحلة ما قبل صدور الحكم التحكيمي (مطلب أول)، وتليها المرحلة الأهم، وهي مرحلة وصول الهيئة التحكيمية إلى النتيجة المطلوبة وهي صدورها لحكم تحكيمي يفصل في النزاع بين الأطراف (مطلب ثاني)
المطلب الأول: مرحلة ما قبل صدور الحكم التحكيمي
إن هذه المرحلة تتميز بعدة إجراءات يكون على الأطراف الراغبة في تحكيم المركز سلوكها ويتأتى ذلك بتحريك الدعوى التحكيمية وذلك بتقديم طلب إلى مركز التحكيم واختيار المحكمين وبعد ذلك تبدأ الهيئة التحكيمية بمناقشة القضية بعد النظر في اختصاصها (فقرة أولى)، كما تتميز هذه المرحلة بضرورة اختيار الأطراف للقانون الإجرائي الواجب التطبيق على الدعوى التحكيمية(فقرة ثانية)
الفقرة الأولى: تحريك الدعوى التحكيمية وتشكيل هيئة المحكمة
لتحريك الدعوى التحكيمية أمام مركز واشنطن لفض منازعات الاستثمار، يستدعي ذلك قيام أحد الأطراف بتقديم طلب إلى المركز، وبعد قبول الطلب (أولا) وتمنح للأطراف فرصة اختيار المحكمين ،تتشكل الهيئة التحكيمية التي تنظر في النزاع (ثانيا)
أولا: تقديم طلب التحكيم
نصت المادة 36 من اتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار في الفقرة الأولى من هذه المادة على أن أي دولة متعاقدة أو مواطن لدولة متعاقدة يرغب في تحريك إجراءات التحكيم عليه أن يوجه طلبا كتابيا بذلك إلى السكرتير العام الذي يرسل صورة من الطلب إلى الطرف الآخر، وأردفت في الفقرة الثانية من المادة أنه يجب أن يتضمن الطلب "معلومات عن المسائل موضوع النزاع، وعلى تعريف بشخصية أطرافه وعلى موافقتهم على اللجوء للتحكيم طبقا لقواعد تحريك إجراءات التوفيق والتحكيم، وخلصت في الفقرة الثالثة على النص، بقيام السكرتير العام بتسجيل الطلب إلا إذا تبين له على أساس المعلومات التي يتضمنها الطلب أن النزاع يخرج عن اختصاص المركز بشكل ظاهر، ويقوم بإخطار الطرفين بإتمام التسجيل أو رفضه"مما سبق يتبين أنه لتحريك الدعوى التحكيمية في مركز واشنطن استلزمت المادة 36 من الاتفاقية أن يقدم الطلب كتابة :وأن يتضمن بعض المعلومات وهي
1- تحديد أطراف النزاع بشكل دقيق، وهذا يتضمن أنه في حال كان أحد الطرفين في النزاع مؤسسة أو هيئة تابعة للدولة متعاقدة يجب ذكر ذلك، كما أنه يجب أن يتم تحديد جنسية الطرف الثاني لمعرفة ما إذا كان يحمل جنسية دولة متعاقدة أم لا، وكذلك لمعرفة ما إذا كان يحمل جنسية الدولة المتعاقدة الطرف في النزاع()، والهدف من هذا الشرط في اعتقادنا هو النظر فيما إذا كان المركز مختصا في نزاع الأطراف من غيره، خصوصا وأن المركز لا ينظر إلا في المنازاعات التي كان أطرافها دولا أو مواطنين لدول صادقت على الاتفاقية (اتفاقية واشنطن)
2- الإشارة إلى تاريخ التراضي بالتحكيم، وإذا كان الطرف شخصا طبيعيا فيجب بيان تحديد جنسيته عند تاريخ الطلب، وأنه لا يحمل جنسية الدولة الأولى الطرف في النزاع سواء عند تاريخ الرضاء أو عند تاريخ تقديم الطلب، أما إذا كان الشخص اعتباريا فيجب تحديد أنه عند تاريخ الرضاء بالتحكيم كان يتمتع بجنسية أحد من الدول المتعاقدة الطرف في المنازعة أو أنه قد نص في الاتفاق على وجوب معاملته كمواطن لدولة أخرى متعاقدة وذلك لأغراض تطبيق الاتفاقية()ونرى مع أحد الباحثين() أن التنصيص على تاريخ التراضي وقبول التحكيم أمام المركز له أهمية جد بالغة بخصوص منع تحايل الأطراف وذلك بتعديل الجنسية أو تغييرها بعد الاتفاق على التحكيم، بهدف خلق اختصاص محكمة المركز أو على العكس استبعاد اختصاصها
3- بيان أن النزاع بين الأطراف إنما هو نزاع قانوني نشأ عن استثمار() أجنبي مما يعني استبعاد المركز النزاعات المتعلقة بالخلافات السياسية لأن هذه الأخيرة تخرج عن الطبيعة القانونية، كما يخرج اختصاص المركز النظر في منازعات الاستثمار الداخلي لدولة معينة وبين مواطنيها()وعند تأكد السكرتير من توفر الشروط السابق ذكرها يقوم بتسجيل الطلب، كما يكون له الحق رفض تسجيل طلب التحكيم إذا رأى أن هذا الطلب يقع بطريقة واضحة خارج نطاق اختصاص المركز لفقدان واحد أو أكثر من شروط الاختصاص، ويجب عليه إذا رفض هذا التسجيل أن يقوم بإخطار الطرفين تلقائيا بهذا الرفض()ولقد منحت اتفاقية واشنطن لتسوية خلافات الاستثمار سلطة الرفض هذه للسكرتير العام للمركز، وذلك بهدف الوقوف في وجه الدعاوى التعسفية أو الكيدية التي قد ترفع ضد إحدى الدول المتعاقدة من طرف مستثمرين أجانب بشأن نزاعات تخرج عن اختصاص المركز وقد عززت الاتفاقية هذه السلطة عندما جعلت قرار الرفض الصادر عن الكاتب العام للمركز لا يقبل أي طعن()ثانيا: اختيار المحكمين وتشكيل هيئة المحكمة
طبقا لاتفاقية واشنطن يجب على الأطراف اختيار المحكمين في أقرب فرصة من وقت تسجيل الطلب()، والمدة التي أتاحتها الاتفاقية للأطراف لممارسة الحق في تعيين المحكمين هي تسعون يوما من يوم تسجيل الطلب، ومع ذلك يجوز للأطراف الاتفاق حول مدة أطول من ذلك()وتعيين المحكمين يكون عبر اختيارهم من قوائم المحكمين التي شكلها المركز، وهذه القائمة يتم إعدادها وفقا للمادة 14 :من اتفاقية واشنطن على الشكل التالي
أ- تقوم كل دولة من الدول المتعاقدة بتعيين 4 أشخاص يمكن أن يكونوا من مواطنيها أو من غير مواطنيها
ب- يمكن لرئيس مجلس الإدارة أي المدير العام للبنك الدولي ان يقوم بتعيين 10 أشخاص من مخلفي الجنسيات في القائمة
والأشخاص الذين يعينون في القوائم يجب أن تتوفر فيهم وفقا للمادة 14 من اتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، بعض الصفات كالأخلاق العالية، وأن يكون مسلم بمقدرتهم في ميادين القانون أو التجارة أو الصناعة أو المال، ويمكن الاعتماد على استقلالهم في الرأي ويراعي أيضا ضمان تمثيل النظم القانونية الرئيسية في العالم
والرأي فيما نعتقد أن المادة أعلاه قد تجاوزت بعض المقتضيات التي تقضي بها بعض التشريعات الخاصة بالتحكيم الداخلي في الدول بخصوص أهلية المحكم فيما إذا كان قاصرا أو محجورا عليه أو كانت له علاقة عداوة أو قرابة مع الأطراف، وذهبت إلى حل الإشكال المتعلق حسب أحد الباحثين فيما يخص القانون الواجب التطبيق على أهلية الحكم هل قانونه الشخصي أم قانون المكان الذي يجري فيه التحكيم أم القانون المطبق على إجراءات التحكيم أم القانون المطبق على العقد ، بحيث ذهبت الاتفاقية لتجاوز هذه الإشكالات إلى منع تسمية محكم يتمتع بجنسية أحد الأطراف عندما تعود التسمية إلى رئيس مجلس الإدارة(). بخلاف بعض الاتفاقيات الدولية الأخرى كاتفاقية نيويورك لسنة 1958 التي كرست مبدأ سلطان الإرادة بخصوص مسألة اختيار الأطراف للمحكم وخاصة بالنسبة لجنسيته، فيعمل وفقا لاتفاقهم(). أما اتفاقية جنيف لسنة 1961 فقد كرست رسميا اهلية الاجنبي ليكون محكما في المادة 3 من الاتفاقية
هذا فيما يتعلق بجنسية المحكمين ،اما بالنسبة لعدد المحكمين فقد نصت المادة 37 من اتفاقية واشنطن على أن المحكمة تتكون من شخص واحد أو من أي عدد فردي من الذين يعينون حسب اتفاق الطرفين، وإذا لم يتفق الطرفان على المحكمين وطريقة تعيينهم فإن المحكمة يجب أن تتكون من 3 محكمين يعين كل طرف واحد منهم والثالث يعين باتفاق الطرفين، وفي حالة عدم التوصل إلى تكوين المحكمة خلال 10 أيام من إرسال السكرتير العام إخطارا بتسجيل الطلب، أو في خلال أي مدة أخرى يتفق عليها الطرفان، فإن الرئيس يقوم وفقا للمادة 38 بتعيين المحكم أو المحكمين الذين لم يتم تعيينهم بعد بناء على طلب أي من الطرفين وبعد مشاورتهما قدر المستطاع()ومن خلال ما سبق يمكن القول أن الاتفاقية الخاصة بمنازعات الاستثمار تميزت عن غيرها من الاتفاقيات الدولية :للتحكيم الدولي في النقط التالية
1- السرعة في تعيين المحكمين وتشكيل المحكمة، وذلك بهدف التسريع في الفصل في النزاعات المطروحة على المركز() خصوصا وأن عقود الاستثمار مقيدة في الغالب بعنصر الوقت()
2- البدأ في إجراءات التحكيم مباشرة ومن وقت تقديم الطلب إلى المركز وفقا لما نصت عليه الاتفاقية، خلافا لما جاءت به بعض الاتفاقات الأخرى التي تعتد بتاريخ تسلم المدعى عليه لطلب التحكيم قصد البدأ في إجراءات التحكيم()
3- اختيار المحكمين لا يكون إلا بعد قبول الطلب، وهي خاصية فريدة تقضي بها الاتفاقية، إذ لا يكون اختيار المحكمين في اتفاق التحكيم سابقا عن قبول طلب التحكيم لدى المركز
4- جنسية المحكمين المختارين من قبل الأطراف يجب أن تكون غير التي يحملها الأطراف، وذلك لما لهذه الخاصية من أهمية في الحفاظ على حياد المحكم وعدم الانحياز إلى طرف دون آخر، وهذا ما يجعل المحكم موضع ثقة واطمئنان لدى كافة الأطراف
5- وأخيرا فإن المواد من 59 إلى 61 من الاتفاقية حددت كيفية تحديد النفقات ودفعها إذ يمكن للطرفين أن يتفقا مسبقا مع لجنة المحكمة على أتعاب المحكمين() وفي حالة عدم الاتفاق تقوم المحكمة بتقديرها ومن يقوم بدفعها أثناء صدور الحكم
الفقرة الثانية: القانون الإجرائي المطبق على الدعوى التحكيمية
يعتبر اختيار القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم في مركز واشنطن من المسائل المهمة على الصعيد الدولي، ذلك أنه في التحكيم الداخلي يكون المحكم على بينة من القانون الواجب التطبيق بشكل واضح خصوصا في حالة اتفاق الأطراف على ذلك()على خلاف لما هو عليه الحال في التحكيم الدولي وخاصة عندما يتعلق الأمر باتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار التي لا تأخذ بعين الاعتبار أي قانون وطني، وباعتبارها معاهدة دولية فهي تكون قانون المحكم طبقا للمادة 44 من الاتفاقية، غير أن الأمر يمكن مخالفته في حالة اتفاق الأطراف على تطبيق قانون ما فالاتفاقية تطبق في غياب اتفاق الطرفين(). وهذا ما يجعل الاتفاقية تتسم بنوع من المرونة، فطرفا النزاع غير مجبرين على التقيد بالكثير من القواعد التي فرضتها الاتفاقية والتي يمكنهم الاستغناء عنها باستبعادها والاتفاق على ما يخالفها، وبالرغم من : هذه المرونة التي تتميز بها فإنها لا تصل إلى حد يشل إجراءات التحكيم، ويظهر ذلك في النقط التالية()فمثلا إذا امتنع أحد الأطراف عن تعيين محكم بهدف شل هذه الإجراءات يبقى بالإمكان تشكيل المحكمة التحكيمية، وذلك بتدخل من رئيس مجلس إدارة المركز لتعيين المحكم()، وفي حالة عدم حضور أحد الطرفين أو عدم إجرائه دفاعه في أي مرحلة من مراحل الإجراءات، فإنه يجوز للطرف الآخر أن يطلب المحكمة أن تفصل في المسائل المطروحة عليها وأن تصدر حكما()وفي حالة ما إذا أثيرت أي مسألة من مسائل الإجراءات لا تشملها أحكام الاتفاقية أو قواعد التحكيم أو أي قواعد متفق عليها بين الطرفين يقوم المحكمون بالبث في هذه المسألة، ويجوز للمحكمة في حال لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك، وإذا كان ذلك ضروريا في أي مرحلة من مراحل الإجراءات أن تطلب إلى الطرفين تقديم مستندات أو أدلة مناسبة، وأن تزور المكان المتصل بالنزاع وتجري ما تراه لازما من تحقيقات()، وللإشارة فإنه بخصوص مكان إجراء التحكيم فقد نصت المادة 62 من الاتفاقية على أن التحكيم يجري في مقر المركز إلا في حالات معينة حددت : في المادة63 من الاتفاقية وذلك بعد موافقة الطرفين على ذلك وهذه الحالات هي
1- إمكانية إجراء التحكيم إذا اتفق الطرفان على ذلك في مقر محكمة التحكيم الدائمة أو أي مؤسسة أخرى مناسبة سواء كانت خاصة أو عامة، ويتفق معها المركز على ترتيبات لهذا الغرض
2- إمكانية إجراء عملية التحكيم في أي مكان آخر باتفاق الطرفين شريطة موافقة محكمة التحكيم بعد مشاورة السكرتير العام
وبخصوص الإجراءات الوقتية()، فإنه للمحكمة أن تأمر باتخاذ أي تدابير أو إجراءات مؤقتة وفقا للظروف وإذا ما ارتأت أن مثل هذا الأمر ضروري للمحافظة على حقوق أي من الطرفين، إلا أن اتفاقية واشنطن تفتح المجال في هذا الأمر بالنسبة للتدابير المؤقتة ولم تضع تحديدا لها()ومن جهة أخرى فاللغة المستعملة في سير إجراءات الدعوى في المركز فالمادة 22 من نظام إجراءات المركز منحت للأطراف إمكانية الاتفاق على استعمال لغة أخرى غير اللغات الرسمية للمركز بشرط موافقة المحكمة التحكيمية بعد استشارة السكرتير العام، وفي حالة عدم الاتفاق حول اختيار اللغة المستعملة فلكل واحد من الأطراف أن يختار لغة من اللغات الرسمية للمركز وهي الإنكليزية، الإسبانية، الفرنسية()وبخصوص المسطرة أمام المحكمة التحكيمية هي في مرحلة أولى كتابية تليها مسطرة شفوية ما لم يتفق على خلاف ذلك()وهكذا نخلص إلى أن اتفاقية واشنطن أخذت بمبدا سلطان الإرادة بخصوص اختيار القانون الواجب التطبيق على الإجراءات التحكيمية أمام المركز شريطة التنصيص على ذلك في اتفاق التحكيم، شأنها شأن باقي الاتفاقات الدولية التي سلكت هذا الموقف، كاتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين حيث جعلت في المادة 5 منها من بين أسباب رفض تنفيذ الحكم التحكيمي الدولي في البلد المطلوب فيه تنفيذ الحكم التحكيمي، مخالفة المحكمة للإجراءات التحكيم التي اتفقا عليها الأطراف، وكذلك اتفاقية جنيف الأوربية لعام 1961 التي أعطت الحرية للأطراف في حالة : النزاع()
1- إلى هيئة تحكيمية دائمة، وبالتالي يسير التحكيم وفقا لنظام هذه الهيئة
2- أو إلى تحكيم له إجراءات تحكيمية خاصة وبالتالي يكون للأطراف الحرية في تعيين
أ- المحكمين وطريقة تسميتهم في حالة حصول نزاع حول هذا
ب- مكان التحكيم
ج- القواعد المتبعة من قبل المحكمين لسير الإجراءات
أما على مستوى قواعد القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي اليونسترال لعام 1985 فالأمر لا يختلف فحرية الأطراف ومبدأ سلطان الإرادة في اختيار قانون الإجراءات هو الأصل، حيث يجد مصدر في المادة 19 من هذا القانون النموذجي
يبقى في الأخير أن نشير إلى أنه سواء تعلق الأمر بإجراءات الدعوى التحكيمية أمام مركز واشنطن وفقا لما نصت عليه اتفاقية واشنطن لسنة 1965 أو استنادا إلى اتفاقيات دولية أخرى. وسواء أكان القانون المطبق هو قانون مكان التحكيم أم قانون إرادة الطرفين فإن هناك بعض القواعد التي يجب أن يخضع لها التحكيم في جميع الحالات وأهم هذه : القواعد هي
1- قاعدة وجاهية المحاكمة بحيث يطلع كل طرف على المستندات التي يبرزها خصمه، وعلى كل حجة يبديها
2- قاعدة المساواة بين الطرفين بإعطاء كل طرف الفرصة الكافية لإبداء دفاعه أو هجومه
3- على المحكم أن يبني حكمه وقراره على قناعته الشخصية وليس على قناعة غيره
4- المحاكمة التحكيمية ليست علنية ولا يحضرها إلا الأطراف وشهودهم ولا يشذ عن هذه القاعدة الأولى إلا في حال اتفاق الخصوم على هذا الأمر
5- يمكن للمحكمين الاستعانة بخبير إذا اقتضى حل النزاع مثل هذا الأمر، فإذا لم يتفق الخصوم على تعيين خبير، قام المحكم أو المحكمة بتعيينه()وهكذا فبانتهاء كافة أطوار العملية التحكيمية من استماع الى الشهود وتبادل المذكرات وتقديم المستندات وعموما انتهاء جميع التحقيقات والمرافعات تحجز الهيئة التحكيمية الملف للمداولة، وتصدر حكمها التحكيمي
المطلب الثاني: الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن
يعتبر الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن النتيجة المنطقية لجميع الإجراءات التي تكون أمام المركز للفصل في نزاع معروض على هيئة التحكيم يتعلق بالاستثمارات الأجنبية والتي يكون أحد أطرافها دولة ومستثمر أجنبي، وعديد من التشريعات والاتفاقيات الدولية لم تضع تعريفا معينا لحكم التحكيم وإن كانت اتفاقية نيويورك() قد تضمنت إشارة إلى الحكم التحكيمي، أما على مستوى الفقه فقد عرفه البعض بأنه العمل الذي بموجبه يفصل المحكمون في المسائل المتنازع عليها والتي عهد إليهم الخصوم بالفصل فيها، فيما ذهب البعض الآخر إلى القول بأنه قرار محكمة التحكيم الذي يحسم بصفة نهائية المسائل المعروضة عليها()، والحكم الصادر عن مركز واشنطن حسب اتفاقية واشنطن لسنة 1963() هو حكم ملزم للطرف الخاسر للدعوى بحيث يجب الاعتراف به وتنفيذه (الفقرة الأولى) إلا إذا صدر بشكل مخالف لما تنص عليه الاتفاقية فإنه يمكن الطعن فيه وفق شروط معينة وأمام المركز نفسه (الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى: تنفيذ الحكم الصادر عن هيئة التحكيم بمركز واشنطن
يعتبر الحكم التحكيمي صادرا عن هيئة التحكيم بمركز واشنطن لفض منازعات الاستثمار في حالة وجود محكم واحد بعد الانتهاء من تقديم الوثائق والمذكرات بين الطرفين وإقفال باب المرافعة، أما في حالة تكوين هيئة أو محكمة تحكيم، فإن هذا الحكم يصدر بعد أن يتداول المحكمين في حيثيات النزاع وهذه المداولة يجب أن تكون سرية، وليس من الضروري أن تتم المداولة بين المحكمين وهم مجتمعين في مكان واحد، بل قد يقوم رئيس المحكمة بإصدار مشروع الحكم التحكيمي، وترسل نسخة منه إلى كل محكم في البلد الذي يوجد فيه، ويقوم كل منهم بإبداء رأيه بالمراسلة إلى أن يتم الاتفاق على صيغة نهائية لهذا الحكم()، وحسب المادة 48 لاتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار فإن الحكم يصدر بأغلبية أعضاء محكمة التحكيم ويصدر كتابة وأن يتناول جميع المسائل التي طرحت على المحكمة، كما يجب أن يكون معللا أي أن يوضح الأسباب التي بني عليها، مع توقيع الأعضاء الذين صوتوا لصالحه، كما يمكن لأي عضو في المحكمة أن يلحق بالحكم رأيه الفردي، سواء كان يعارض أو يوافق الحكم
ولاشك أن الحكم الصادر عن مركز واشنطن هو حكم أجنبي بالنسبة للدولة الصادر ضدها أو التي يتعين أن ينفذ على أراضيها، ومادام الأمر كذلك فإنه من اللازم على كل دولة متعاقدة في الاتفاقية الدولية الخاصة بالاعتراف بالقرارات التحكيمية الأجنبية وتنفيذها المعروفة باتفاقية نيويورك لسنة 1958، أن تعترف بالحكم التحكيمي الأجنبي غير أنه وإن كان الحكم الصادر عن مركز واشنطن حكما أجنبيا يتعين الاعتراف به() فإنه يمتاز بخاصية أخرى تتمثل في أنه ملزم للطرفين بمعنى أن الدولة المتعاقدة ليس من حقها أن ترفض الاعتراف به كحكم تحكيمي صادر عن المركز كما يجب أن تعترف بإلزاميته(). وبذلك تكون اتفاقية واشنطن قد تشددت في إلزامية الحكم التحكيمي الصادر عن المركز واعتبرته حكما نهائيا لا يمكن رفضه أو استبعاده، ودون أن يكون الطرف الذي صدر لصالحه بتقديمه للمحاكم الوطنية في دولة التنفيذ قصد الاعتراف به، بخلاف اتفاقية نيويورك التي خفضت إلى حد كبير الأسباب التي يمكن على أساسها رفض الاعتراف بحكم المحكم أو رفض تنفيذه بحيث أجملتها المادة الخامسة من اتفاقية نيويورك لسنة 1958 فيما يلي
1- عدم أهلية الأطراف طبقا للقانون الواجب التطبيق عليهم أو بطلان عقد التحكيم في ظل قانون التحكيم المختار بواسطة الاعتراف، وعند غياب اتفاقهم على قانون معين، ففي ظل القانون الذي تم فيه إصدار الحكم
2- أن الطرف المدعى عليه لم يتم إعذاره بطريقة سليمة أو إذا لم يستطع إبداء الدفاع عن قضيته
3- أن الحكم فصل في نزاع غير وارد في مشارطة التحكيم أو في عقد التحكيم أو تجاوز حدودهما فيما قضى به
4- إذا كان تكوين المحكمة أو إذا كانت القواعد الإجرائية لا تتفق مع تلك التي ارتضاها الأطراف
5- إذا كان الحكم غير ملزم بسبب تجنيبه أو إيقافه بواسطة السلطة المختصة أو في ظل القانون الذي تم فيه إصدار الحكم
6- إذا كان موضوع النزاع غير قابل للفصل فيه بطريقة التحكيم في ظل قانون مكان التحكيم
7- إذا كان الاعتراف بالحكم وتنفيذه مخالفا للنظام العام في بلد التنفيذ
وهكذا نخلص إلى أن الأسباب المشار إليها أعلاه تجعل من أحكام المحكمين الصادرة عن هيئات تحكيم دولية ليست لها القوة الإلزامية إذ من اليسير عن ترفض المحاكم الوطنية الاعتراف بها بناء على سبب بسيط، بخلاف الحكم الصادر عن مركز واشنطن ذي القوة الإلزامية تجاه كافة الدول المتعاقدة
والرأي فيما نعتقد أن السبب يكمن في جعل هذا الحكم يمتاز بهذه الخصوصية، هو صدوره عن هيئة تحكيم دولية أو أهمية بمعنى أنها تابعة للبنك الدولي، إضافة إلى كون المحكمين الذين يصدرون الحكم تتوفر فيهم الاستقلالية والحياد والنزاهة ويكون مسلم بمقدرتهم في ميادين القانون أو التجارة أو الصناعة أو المال()، إضافة إلى حملهم لصفة "عدم الانحياز" بمعنى أنهم لا يحملون جنسية الخصوم()، غير أن السبب المهم في تقديرنا يكمن في اللاتوازن بين الطرفين بحيث ان أحد أطراف النزاع دولة ذات سيادة والطرف الآخر المنازع مواطن أجنبي مما يعني هذا الأمر إمكانية عدم الاعتراف بالحكم الصادر لصالح المستثمر الاجنبي وتعنت الدولة المستثمرة على أراضيها بعدم الاعتراف وتنفيذ الحكم، وهذا ما جعل اتفاقية واشنطن تمنح صبغة الإلزامية للحكم التحكيمي الصادر عن مركز التحكيم بواشنطن
ورغم أن اتفاقية واشنطن قد نصت على إلزامية الاعتراف بحكم المحكمين الصادر عن مركز واشنطن فإن ذلك ربطته بالقوة التنفيذية للحكم، فالحكم الصادر عن المركز يتمتع بالقوة التنفيذية في دولة التنفيذ دون أي إجراء آخر أمام المحاكم الوطنية في ذلك البلد، إذ يحق للمحكوم له إبراز نسخة من الحكم مصادقا عليها من السكرتير العام للمركز، وبذلك تعمد الدولة المتعاقدة بتنفيذ التزاماتها المالية التي يقضي بها قرار التحكيم كما لو كان حكما قطعيا صادر عن إحدى محاكمها()، إضافة إلى ذلك فقد نصت الاتفاقية على مثل هذا الإجراء حتى بالنسبة للدول المتعاقدة ذات النظام الاتحادي، إذ يجوز للمحكوم عليه أن يقدم الحكم التحكيمي أمام محاكمها الاتحادية قصد تنفيذه وفقا للإجراءات الخاصة بتنفيذ الأحكام القضائية في ذلك البلد
فإذا كان من الآثار التي يرتبها الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن هي إلزامية الاعتراف به وإمكانية تنفيذه على الفور، فإن الحكم ينسحب بآثاره كذلك على المحكم أو المحكمة التحكيمية التي أصدرته() فبمجرد إصدار الحكم ترتفع يد المحكم أو المحكمين الذين أصدروا القرار عن موضوع النزاع فلا يعود لهم الحق بنظره ثانية()، غير أن المادة 49 من اتفاقية واشنطن وضعت استثناء بحيث نصت على أنه "يجوز للمحكمة بناء على طلب يقدمه أحد الطرفين خلال 45 يوما من تاريخ صدور الحكم أن تقوم بعد إخطار الطرف الآخر بالفصل في أي مسألة أغفلت الفصل فيها في الحكم، وبتصحيح أي خطأ كتابي أو حسابي أو ما شابه في الحكم ويعتبر قرارها جزء من الحكم ويخطر به الطرفان بنفس الطريقة كالحكم
والملاحظ مما سبق ونحن نتحدث عن إلزامية حكم المحكمين من حيث الاعتراف به وقبول تنفيذه، أن هذا التنفيذ لا يجب أن يتعارض مع الأحكام التي ترعى حصانته إذ يمكن أن يتعرض قرار التحكيم هذا لمخاطر التصادم مع أحكام القانون الوطني في هذا النطاق()، وهذا ما يستفاد من المادة 55 من اتفاقية واشنطن بالتنصيص على أنه "لا يجوز تفسير المادة 54 على أنها تتضمن أي استثناء من أحكام القانون المعمول به في أي دولة من الدول المتعاقدة، والمتعلق بحصانة تلك الدولة أو أي دولة أجنبية أخرى"فالملاحظ لهذه المادة أنها تبين أن الحكم التحكيمي قد يصطدم بالحصانة السيادة لبعض الدول() بحيث تقف حائلا أمام المحكوم له الراغب في تنفيذ الحكم بالرغم من الإلزام الذي جاءت به الاتفاقية، وهذا ما وقع بالفعل في العديد من القضايا التي رفضت الدولة المحكوم عليها أو المؤسسات التابعة لها، تنفيذ حكم المركز، ومن بين هذه القرارات، قرار التحكيم الصادر في كل من قضية "لينا غولد فييلدس" ضد حكومة الاتحاد السوفياتي سابقا وقضية شركة لونجار ضد الحكومة اليوفسلافية وقضية شركة "سوكوبلج" ضد الحكومة اليونانية وقضية شركة الدراسات والمقاولات ضد الحكومة اليوغسلافية وقضية شركة "صابير" ضد مؤسسة البترول الإيرانية.."()فعلى الرغم من أن الاتفاقية ألزمت الدول المتعاقدة بمعاهدة حكم المركز كما لو كان حكما نهائيا صادر عن أحد محاكمها الوطنية فإنها لم تلزمها باتخاذ وسائل التنفيذ لإعمال هذا الحكم()، مما يعني أن حكم المركز يتعطل تنفيذه بمجرد الدفع بالحصانة السيادية قصد منع التنفيذ ضد أملاك أو أموال الدولة الأجنبية() كما حصل في القضية بين حكومة الكونكو وشركة بنفونوشي بونفان الإيطالية (B.B)()، حيث محكمة الاستئناف بباريس ذهبت إلى التمييز بين الاعتراف بالحكم التحكيمي للمركز ذي القوة الإلزامية وبين إمكانية التنفيذ على أموال الدولة المتعاقدة عند تفسيرها للمادة 54 من الاتفاقية، وهذا الأمر، أي التفرقة بين الاعتراف بحكم المركز وقوته الملزمة وبين إجراءات التنفيذ والدفع بالحصانة السيادية انتقده بعض الفقه()، وذلك لسببين :الأول أنه لن يكون نظام التحكيم التجاري الدولي فعالا إلا إذا ضمن لحامل الحكم الحصول على حقه حتى آخر مرحلة، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا استطاع حامل الحكم تنفيذه. والسبب الثاني، فالاتفاقية لم تحرم المحاكم الوطنية من منح إجراءات التنفيذ ضد أملاك المستثمر الخاصة، إذ لاشك أنه ليس من العدل أن تمنع الاتفاقية المحاكم الوطنية في إحدى الدول المتعاقدة من منع إجراءات التنفيذ ضد أملاك أو أموال الدولة الطرف في تحكيم المركز إذا لم تكن هذه الأموال مخصصة لخدمة عامة
ونحن بدورنا نرى أن الدفع بالحصانة السيادية تجاه أحكام المركز قصد التهرب من عدم تنفيذها، أمر منتقد للأسباب : التالية
1- إن اتفاقية واشنطن في الفقرة 4 من المادة 25، منحت الحق للدول المتعاقدة في إمكانية إخطار المركز وقت التصديق على الاتفاقية أو في وقت لاحق بعدم إخضاع طائفة من المنازعات لاختصاص المركز، وهو الأمر الذي ذهبت بعض الدول إلى تطبيقه مثل السعودية التي استبعدت منازعات البترول من نطاق اختصاص المركز()، وجميكا وغينيا اللتان استبعدتا المنازعات المتعلقة بالمواد المعدنية والطبيعية()، لذلك فقبول التحكيم في منازعات تتعلق بمصالح حيوية للدولة بمثابة تنازل عن هذه السيادة
2- إن الحكم التحكيمي يستمد قوته الإلزامية من اتفاق التحكيم ومن مبدأ سلطان الإرادة ورضى الطرفين في إخضاع منازعات الاستثمار الناشئة بينهم لتحكيم المركز(). لذا فالدفع بالحصانة السيادية ضد أحكام المركز فيه تعارض مع مبدأ حسن النية في تنفيذ الالتزامات التعاقدية
3- كما أن التمسك بالحصانة السيادية لا يكون إلى في مواجهة قضاء دولة أخرى تتساوى معها في السيادة، خصوصا إذا كان هناك تطبيق لمبدأ المعاملة بالمثل في إطار القانون الدولي. وهذا الأمر الذي لا يسري على الحكم التحكيمي باعتباره قضاء خاصا غير خاضع لسيادة أي دولة أجنبية()
4- ومن ناحية أخرى فقبول الدولة الطرف في النزاع بتنفيذ الحكم التحكيمي على أموالها يبعث الثقة والارتياح لدى المستثمرين الأجانب، مما يشجع دخول الاستثمارات الأجنبية إلى البلد المضيف، وفي ذلك مصلحة للاقتصاد الوطني لا محالة
ونخلص في الأخير إلى أن المادة 55 من اتفاقية واشنطن وإن كان وضعها منتقد لدى البعض()، بحيث سمحت للدول بالدفع بحصانتها السيادية تجاه أحكام المركز مما يتناقض مع الأهداف التي وضعت من أجله الاتفاقية، فإنها نصت على ضمانات أخرى، يمكن للمستثمر الأجنبي اللجوء إليها في حالة رفض الدولة المضيفة للاستثمار تنفيذ الحكم، وهي اللجوء إلى الحماية الدبلوماسية لدولته، غير أن اللجوء إلى هذه الوسيلة لا يكون إلا في حالة عدم احترام الدولة الأخرى المتعاقدة حكم المحكمين كما أشرنا إلى ذلك أعلاه. وهذا ما تقضي به المادة 27، من اتفاقية البنك الدولي لتسوية منازعات الاستثمار "حيث جاء فيها لا يجوز لدولة متعاقدة أن تمنح حماية دبلوماسية، أو أن تقوم بمطالبة دولية، بالنسبة لنزاع اتفق أحد مواطنيها مع دولة متعاقدة أخرى على أن يطرح على التحكيم أو طرح فعلا على التحكيم طبقا لهذه الاتفاقية إلا في حالة عدم احترام الدولة الأخرى المتعاقدة حكم المحكمين الصادر في النزاع وعدم تنفيذه، ولا يعتبر من باب الحماية الدبلوماسية في مفهوم الفقرة الأولى تبادل وجهات النظر بالطرق الدبلوماسية غير الرسمية بقصد تسهيل تسوية النزاع فقط لا غير"وبهذا فإن اتفاقية واشنطن تقدم ضمانة بهدف تنفيذ حكم التحكيمي الصادر من المركز عبر المادة 27 منها، وذلك عبر السماح للمستثمر الأجنبي بالوقوف أمام جهة اختصاص دولي جنبا إلى جنب مع الدولة المضيفة للاستثمار()، أي أمام محكمة العدل الدولية طبقا لما جاءت به المادة 64 من الاتفاقية التي تنص على أن "أي نزاع بين الدول المتعاقدة يتعلق بتفسير هذه الاتفاقية أو بتطبيقها ولم تتم تسويته بالمفاوضة، يحال إلى محكمة العدل الدولية بناء على طلب أي من أطراف النزاع، إلا إذا اتفقت الدول المعنية على طريقة أخرى لتسويته"وبالتالي فإن المادة أعلاه تشكل وسيلة مهمة ضد حدوث أي مخالفة مهمة، كعدم الانصياع لحكم التحكيم()، إذ سمحت للدول باللجوء لمحكمة العدل الدولية() قصد حل النزاعات المتعلقة بتطبيق اتفاقية واشنطن، وهذه المادة تعتبر وسيلة فعالة في استخدام تقنية الحماية الدبلوماسية للمستثمر الأجنبي إذ يحق للدولة التي يحمل جنسيتها أن تتبنى دعواه أمام هذه المحكمة قصد الحصول على التعويضات إذا كان المستثمر الأجنبي قد أصابته أضرار مادية من جراء عدم تنفيذ حكم محكمة تحكيم المركز()، وللمحكمة أن تفصل في النزاع بإصدار حكمها وإجبار الدولة للاستثمار بتنفيذه، وذلك بتدخل من السلطة التنفيذية للجمعية العامة المتمثلة في مجلس الأمن
ويطرح سؤال في هذا الخصوص فيما إذا كان فتح الباب للمستثمر الأجنبي باللجوء إلى محكمة العدل الدولية في حالة عدم تنفيذ الحكم من قبل الدولة المضيفة، يفرض أولا طلب الحماية الدبلوماسية من قبل دولته أو يحق له مباشرة الدعوى بصفته الشخصية؟ ذلك أنه بالرجوع إلى الاتفاقية وخاصة الباب الثامن منها المعنون تحت عنوان "المنازعات بين الدول المتعاقدة"!!، هذا الإشكال تجيب عنه المادة 34 من النظام الأساسي للمحكمة العدل الدولية، إذ جاء فيها بأنه "للدول وحدها الحق في أن تكون أطرافا للدعاوى التي ترفع للمحكمة، وبالتالي فإن المستثمر الأجنبي، لا يحق له الدفاع عن نفسه أمام المحكمة إلا إذا تبنت دولته دعواه أمام المحكمة()، غير أن هذا الأمر لا تأخذ به جل الدول إذ قد يجد بعض المستثمرين أن الدول التي يحملون جنسيتها، تمنع عبر قوانينها الوطنية اللجوء إلى التحكيم كما هو الشأن بالنسبة لدول أمريكا اللاتينية التي ترفض الانضمام إلى اتفاقية واشنطن استنادا إلى ما يسمى بشرط CALVO()وفي الأخير يمكن القول أن اتفاقية واشنطن منحت للحكم التحكيمي القوة الإلزامية اعترافا وتنفيذا رغم الثغرة التي شابت المادة 55 منها والتي فتحت المجال للدول بالدفع بحصانتها السيادية للتهرب من حكم المركز، إلا أن الضمانات التي خولتها الاتفاقية للمستثمر الأجنبي فيما يخص اللجوء للحماية الدبلوماسية وكذلك تدخل محكمة العدل الدولية
غير انه ومع ذلك فان هذا الحكم لا يمكن تنفيذه إذا اعتراه سبب من أسباب البطلان، الشيء الذي يدفع الطرف المتضرر من هذا الحكم للطعن فيه إذا توفرت الشروط اللازمة لذلك حسب ما جاءت به الاتفاقية
الفقرة الثانية: الطعن في الحكم الصادر عن المركز
يعتبر القرار التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن لتسوية خلافات الاستثمار قرارا نهائيا لا يمكن استئنافه، فهو كالحكم النهائي()، ومع ذلك فقد أتاحت اتفاقية واشنطن للأطراف إمكانية المنازعة في الحكم بناء على ثلاثة أسباب وهي
أولا: طلب تفسير الحكم
جاء في المادة 50 من اتفاقية واشنطن مايلي
1- إذا نشأ أي نزاع بين الطرفين بالنسبة لمعنى الحكم أو نطاقه يجوز لأي من الطرفين أن يطلب تفسيره بطلب كتابي يوجه إلى السكرتير العام
2- يعرض الطلب على المحكمة التي أصدرت الحكم إذا كان ذلك ممكنا، وإذا لم يمكن ذلك تؤلف محكمة جديدة وفقا للقسم الثاني من هذا الباب، ويجوز للمحكمة إذا قدرت أن الظروف تتطلب ذلك أن توقف تنفيذ الحكم إلى أن تصدر قرارها"وهكذا حسب المادة أعلاه، يمكن لأي من الطرفين أن يطلب إلى المحكمة تفسير معنى أو مضمون الحكم أو نطاقه، وهذا الطلب يجب أن يكون في شكل طلب كتابي ويتم إيداعه لدى السكرتير العام للمركز، وهذا الطلب يجعل الفصل فيه بمعرفة المحكمة التي أصدرته إن أمكن ذلك()ثانيا: طلب مراجعة الحكم بإعادة النظر
إن الطريقة الثانية التي يمكن من خلالها الطعن في الحكم جاءت ضمن ما نصت عليه المادة 51 من الاتفاقية، والتي حصرت الطلب على أن يكون مبنيا على أساس اكتشاف واقعة جديدة من شأنها التأثير في الحكم، شريطة أن تكون هذه الواقعة مجهولة بالنسبة للمحكمة وللطرف الذي طلب إعادة النظر بالحكم على أساسها، وذلك في وقت صدور الحكم على ألا يكون سبب جهل طالب إعادة النظر عائدا إلى تقصيره()واشترطت المادة لقبول الطلب أن يكون كتابة ويقدم إلى السكرتير العام، خلال 90 يوما من تاريخ اكتشاف الواقعة وفي كل الأحوال خلال 3 سنوات بعد صدور الحكم
وللإشارة فإنه من الآثار المترتبة عن قبول طلب إعادة النظر، فإن المادة 51 من الاتفاقية سمحت للمحكمة إذ كانت الظروف تتطلب ذلك أن توقف تنفيذ الحكم إلى أن تصدر قرارها، وإذا طلب أحد الأطراف المحكمة بوقف تنفيذ الحكم، يمكن لها أن توقف التنفيذ مؤقتا إلى أن تفصل في هذا الطلب
إضافة إلى طلب تفسير الحكم التحكيمي وسماح الاتفاقية لأحد الأطراف بطلب إعادة النظر في الحكم بعد صدوره، فإن أهم ما جاءت به الاتفاقية بخصوص الطعن في الحكم التحكيمي والحد من فعاليته هو طلب بطلان الحكم التحكيمي
ثالثا: الطعن بالبطلان في الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن
تضمنت المادة 52 من اتفاقية واشنطن لتسوية خلافات الاستثمار على خمسة أسباب يجوز بمقتضاها لأي من الطرفين : أن يطلب إبطال قرار التحكيم وهي
1- إذا لم تكن الهيئة التحكيمية مكونة تكوينا سليما
2- إذا تجاوزت الهيئة التحكيمية سلطتها بشكل ظاهر
3- إذا وقع تأثير غير مشروع على أحد أعضائها
4- إذا وقع تجاوز خطير لقاعدة أساسية من قواعد الإجراءات
5- اذا أخفق الحكم التحكيمي في بيان الأسباب التي بني عليها
وسنبين على التوالي هذه الأسباب بالشرح
* إن السبب الأول من أسباب بطلان حكم التحكيم يتمثل في عدم تكوين الهيئة التحكيمية تكوينا سليما، فالمعروف أن القاعدة الأساسية التي تكرسها القوانين المدنية هي احترام إرادة الطرفين، بحيث أن تشكيل المحكمة يجب أن يتم وفقا لما نصت عليه إرادة الطرفين في العقد التحكيمي، وإرادة الطرفين لا تحدد شروطا لتشكيل المحكمة التحكيمية عادة بل يستنتج من قانون معين أو نظام تحكيمي معين، ويصبح بذلك هذا النظام أو هذا القانون هو إرادة الطرفين، ومخالفته في تشكيل المحكمة مخالفة لإرادة الطرفين()، وتشكيل المحكمة باتفاق الأطراف في عقد التحكيم، تنص عليه الفقرة الثانية من المادة 37 من اتفاقية واشنطن، وفي حالة عدم اتفاق الأطراف، فالمحكمة يجب أن تتكون من 3 محكمين يكون أحدهم رئيسا للمحكمة (ف 3 من المادة 37 السابقة)
* والسبب الثاني() يتمثل في استعمال المحكمة سلطة زائدة عن اختصاصها، ويشمل هذا السبب صورا متعددة، كأن تقوم المحكمة بالفصل في مسائل لم يتفق الطرفان على فصلها أمام المحكمة، سواء بشرط التحكيم أو باتفاق التحكيم، ويمكن أن يشمل هذا السبب عدم تطبيق المحكمة للقانون الذي اتفق الطرفان على تطبيقه() وفقا للمادة 42 من الاتفاقية، ولا يقصد بهذا السبب التطبيق الخاطئ للقانون الذي اتفق الطرفان على تطبيقه على النزاع الحاصل بينهما، أي أنه على المحكمة الفصل فيما هو مطلوب، وفقط بما هو مطلوب، وعدم تجاوز المحكمة لاختصاصها
* وقوع تأثير غير مشروع على أحد أعضاء الهيئة التحكيمية، كتلقي العضو لرشوة() من أحد الأطراف، أو بسبب آخر غير مشروع كأن يقع التأثير على أحد أعضاء المحكمة بشكل مباشر يمس المبادئ الأساسية التي ترتبط باختيار المحكم، كاستقلالية المحكم عن الطرف الذي قام بتعيينه واستقلاليته عن البلد الذي ينتمي إليه، وفكره السياسي والديني بشكل يمنعه من الحكم بالعدل بين الطرفين()
* السبب الرابع يتعلق بتجاوز الهيئة التحكيمية لقاعدة أساسية من قواعد الإجراءات، كعدم تأمينها حق الدفاع لطرفي النزاع، فمن المبادئ الأساسية في تأمين حق الدفاع نجد مبدأ التواجهية أو وجاهية المحاكمة، وهو مبدأ يضمن حق كل طرف في أن يوضح ما هو ضروري لنجاح طلبه أو دفاعه، كما أنه يضمن لكل طرف يبلغ مستنداته ووسائل إثباته إلى الطرف الآخر فإن أغفلت الهيئة التحكيمية ذلك فإن قرارها يكون معرضا للبطلان()
* السبب الخامس يتعلق بإخفاق الحكم التحكيمي في بيان الأسباب التي بني عليها، ذلك ان تسبيب الأحكام يشكل في الواقع ضمانة للثقة في أسلوب التحكيم كوسيلة بديلة عن قضاء الدولة، وإن كانت بعض الأنظمة التحكيمية لا تتطلبه، كالنظام التحكيمي الإنجليزي، كما أنه وسيلة للرقابة على عملية التحكيم والقائمين به والطريقة التي توصلوا بها إلى النتائج في حسم النزاع، فكل قوانين التحكيم في العالم لديها اتجاه لإلزام المحكمين بتسبيب الأحكام التحكيمية وتعليلها()، لذا فإن اتفاقية واشنطن اعتبرت عدم تسبيب الحكم يؤدي إلى إمكانية إبطاله
والملاحظ من خلال سردنا لأسباب البطلان التي نصت عليها اتفاقية واشنطن أن الاتفاقية حصرت هذه الأسباب في خمسة أسباب فقط، من هنا يتبادر إلى الذهن ويمكن التساؤل عن سبب مهم تكاد لا تخلو معظم القوانين التحكيمية في العالم() من اعتباره كسبب للبطلان، والأمر يتعلق بإمكانية طلب إبطال الحكم إذا كان مخالفا للنظام العام الوطني أو الدولي، فما محل هذا السبب في اتفاقية واشنطن، وهل الحكم التحكيمي إذا بني على سبب مخالف للنظام العام في الدولة المضيفة للاستثمار يمكن الاحتجاج بعدم تنفيذه؟ وما سر عدم التنصيص عليه في اتفاقية واشنطن؟، وفي القانون المغربي هل يمكن الدفع بالنظام العام، إذا بنى على أساسه حكم المركز، وذلك للحيلولة دون تنفيذه في المغرب؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة في غاية الصعوبة ، والسبب في ذلك أن مفهوم النظام العام() يعد من بين المسائل القانونية والمفاهيم الأكثر تعقيدا، ذلك أنه فكرة مرنة تتغير بتغير ظروف المجتمعات من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن حيث الأنواع، فينقسم إلى قسمين نظام عام داخلي ونظام عام دولي، وبين هذا وذاك تعارض في أحوال وتوافق في أحيان أخرى، فإذا كانت الربا، وألعاب القمار والكازينو وعقود بيع الخمور من النظام العام الداخلي يمكن للقاضي أن يستبعد أي حكم تحكيمي يفصل في النزاع المثار بشأن هذه المعاملات، فإن هذه الأمور لا تعتبر من النظام العام في البلدان الغربية()، غير أن النظام العام الداخلي قد يكون جزءا من النظام العام الدولي بمعنى أن ما قد يكون مخالفا للنظام العام الدولي كالبغاء وتجارة المخدرات والرشوة واستغلال النفوذ، قد يكون مخالفا للنظام العام الداخلي، فالنظام العام الدولي مشترك بين كل دول العالم، لذلك فالحكم التحكيمي الدولي يبطل إذا خالف النظام العام الدولي ولا يبطل حتما إن خالف النظام العام الداخلي، أما الحكم التحكيمي الداخلي فيبطله النظام العام الداخلي ولا حاجة لإدخال النظام العام الدولي()وبالرجوع إلى الحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن والمخالف للنظام العام المغربي والرأي فيما نعتقد أنه يمكن استبعاده مادام أنه يمس المصالح العليا للمجتمع المغربي، رغم أنه صادر طبقا للاتفاقية دولية صادق عليها المغرب، ذلك أن الاتفاقات الدولية لا تعلو على الدستور الذي يحمي كيان المجتمع والدولة، غير أن هذه النقطة المتعلقة بالنظام العام الدولي أو الداخلي، تبقى في تقديرنا أمر مستبعد في النزاعات المتعلقة بالاستثمارات الأجنبية مادام أن الدولة المغربية لا يمكن لها أن توافق على شرط تحكيم يتعلق بمعاملة استثمارية تمس بالنظام العام للمجتمع المغربي. أما فيما يخص السر وراء استبعاد إمكانية بطلان حكم المركز على أساس سبب متعلق بالنظام العام، فقد أجاب عنه الدكتور جلال وفاء محمدين بالقول بأنه "أثناء المداولات التي أدت إلى إقرار الاتفاقية كان هناك رأي ينادي بإتاحة الفرصة للتخلص من الحكم التحكيمي الصادر عن المركز على أساس الدفع بالنظام العام Public Policy، على أن الرأي استقر على أن السماح بإثارة هذا الدفع من شأنه هدم كل ما قامت هذه الاتفاقية من أجله في سبيل تثبيت دعائم حكم التحكيم الصادر في منازعات الاستثمار بين الدول والمستثمرين الأجانب، ولذلك ظهرت الصبغة النهائية للاتفاقية خالية من أي دفع متعلق بالنظام العام"()وبخصوص إجراءات طلب إبطال الحكم وفقا لاتفاقية واشنطن، فإن الطلب حسب الفقرة الثانية من المادة 52 من الاتفاقية يقدم في ظرف 120 يوما من تاريخ اكتشاف ذلك السبب وعلى أي حال خلال 3 سنوات من تاريخ صدور الحكم
وفي حال تقديم طلب الإبطال فإن من ينظر بالطلب ليس المحكمة التي أصدرته وإنما يقوم رئيس البنك الدولي وفقا للفقرة الثالثة من المادة 52، بتعيين لجنة من ثلاثة أشخاص يختارون من قائمة المحكمين، ويكون لهذه اللجنة سلطة إبطال الحكم أو أي جزء من أجزائه، مستندا إلى أحد الأسباب التي ذكرنا سابقا والواردة في الفقرة الأولى من المادة 52، وعندها يعرض النزاع مجددا بناء على طلب أي من الطرفين، على محكمة جديدة ان تتكون وفقا لما نصت عليه الاتفاقية()إلا أنه لا يمكن أن يكون أحد أعضاء هذه اللجنة قد شارك في المحكمة التي أصدرت الحكم أو أن يكون من جنسية أحد طرفي النزاع أو من جنسية أحد المحكمين الذين سبقوا أن شاركو في إصدار القرار()ومن سلطات هذه اللجنة بالإضافة إلى إبطال الحكم أن تأمر بوقف تنفيذ الحكم بناء على طلب أو تلقائيا إذا دعت الظروف إلى ذلك
وبهذا فمن أهم مميزات تحكيم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، هي عدم إمكانية الاعتراض على الحكم التحكيمي أمام المحاكم الوطنية في المعاهدة المتعاقدة الطرف في النزاع أو غيرها، ولكن هذه الأحكام تبقى قابلة للإبطال أمام لجنة خاصة تعين لهذا ويعين محكميها من قائمة المحكمين في المركز()خاتمة
يمكن القول في نهاية هذا البحث ان التحكيم الدولي في منازعات الاستثمار الاجنبي امام مركز التحكيم الدولي بواشنطن اصبح واقعا ملموسا يفرض نفسه على معظم الدول النامية ،سواء التي سبقت ان وقعت عن اتفاقية واشنطن منذ زمن بعيد كالمغرب او التي كانت تاخذ التحكيم الدولي بشيئ من الحذر كدول امريكا الجنوبية ذات التوجه الاشتراكي
غير ان ما يمكن رصده بدراسة اتفاقية واشنطن هو ان هذه الاتفاقية تميزت عن غيرها من الاتفاقيات الدولية في مجال التحكيم ،فالتحكيم تحت مضلة مركز واشنطن لفظ منازعات الاستثمار يكفل للاطراف بعض المميزات كما راينا كالثقة المتوفرة في المحكيمن ، والحماية الدبلوماسية لدولة المستثمر الاجنبي عند تعنت الدولة المضيفة في تنفيذ الحكم ، كما ان الاتفاقية اسست على مبدا سلطان الارادة بحيث ان اتفاق الاطراف هو الواجب التطبيق على عملية موضوع النزاع
كما اعطت الاتفاقية للحكم التحكيمي الصادر عن مركز واشنطن قوة تنفيذية وحجية مرادفة يحوزها هذا الاخير بمجرد صدوره ولا يحتاج الى أي اجراء مماثل رغم النقيصة التي شابت الاتفاقية في المدة 55 بحيث سمحت للدول الاطراف ان ترفض تنفيذ الحكم التحكيمي على اساس اعتبارات السيادة وهذا الدفع قد ينجح في احيان كثيرة ، وعلى ذلك فاننا قد يجد المستثمر الاجنبي نفسه امام حكم تحكيمي صحيح ومعترف به ولكن من الناحية العملية يصبح معطلا ،مما قد يرغم المستثمر الاجنبي لطلب الحماية الدبلوماسية وما ينتج عن هذه الاخيرة من صراعات سياسية لا يحمد عقباها. لائحة المراجع
لما أحمد كوجان، التحكيم في عقود الاستثمار بين الدولة والمستثمر الأجنبي، بحث لنيل دبلوم دراسات عليا في قانون الأعمال، الجامعة اللبنانية، مكتبة زين الحقوقية والأدبية، 2008
حنان الإيماني ، " التحكيم في منازعات الاستثمار في ضوء اتفاقية واشنطن لسنة 1965 " ، رسالة لنيل دبلوم
الماستر في القانون الخاص ، جامعة القاضي عياض كلية العلوم الاقتصادية والقانونية والاجتماعية مراكش ، السنة الجامعية 2011.2010
جلال وفاء محمدين ، " التحكيم تحث مظلة المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار " دار الجامعة الجديدة للنشر ، الاسكندرية ، 1995
عبد اللطيف بو العلف ، التحكيم في منازعات الاستثمار ، مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية ، عدد 117 ، نونبر ـ دجنبر 2008
مصلح أحمد الطراونة، نطاق اختصاص المركز الدولي لتسوية المنازعات الناشئة عن عقود الاستثمار الأجنبي وفقا لاتفاقية واشنطن، نسخة الكترونية، دون ذكر المطبعة وتاريخ الطبعة
حسيني يمينة، تراضي الأطراف على التحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، مذكرة لنيل شهادة الماجيستر في القانون، كلية الحقوق والعلوم والسياسة، جامعة مولود معمري تيزي وزو، 2011
معمر نعمان محمد النظاري، التحكيم في منازعات الاستثمار بين القواعد التقليدية والحديثة، أطروحة لنيل الدكتوراه في
القانون الخاص، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، وجدة، السنة الجامعية 2011-2012 البشير أصوفي، خصوصيات التحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، جامعة الحسن الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سطات، السنة الجامعية 2008-2009
خالد ميمون، الطبيعة القانونية لعقود الاستثمار العمومية ومظاهر تأثرها بشرط التحكيم، مقال منشور بمجلة القضاء
المدني، ضمن سلسلة دراسات وأبحاث "الوسائل البديلة لتسوية المنازعات"، العدد 3،
فوزي محمد سامي، التحكيم التجاري الدولي، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الثانية 1992،
عبد الخلق الدحماني، ضمان التوازن المالي لعقود الاستثمار في إطار التحكيم الدولين مطبعة الأمنية، طبعة 2015
، محمد البرانصي، دور التحكيم التجاري الدولي في جلب الاستثمارات الأجنبية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، كلية الحقوق، سلا، السنة الجامعية: 2006/2007
سامي محمد عبد العال، دور القضاء والتحكيم الدولي في تسوية منازعات الاستثمار، بحث مقدم إلى مؤتمر كلية الحقوق، جامعة طنطا في الفترة من 29 إلى 30 / 4/2015
رفعت محمد عبد المجيد، مفهوم النظام العام وأثره في تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، دفاتر المجلس الأعلى العدد 7/2005
، عبد الحميد الأحدب، مفهوم النظام العام في التحكيم، المجلة المغربية للتحكيم التجاري، عدد 2، 2013
يمكنك تحميل المقال بصيغة word