دور النيابة العامة في حماية العقار أثناء مسطرة التحفيظ العقاري
من إعداد ,أيوب بومزاود ,كاتب رأي ,مهتم بالشؤون القانونية وباحث بسلك القانون الإجرائي وطرق تنفيذ الأحكام.
يقصد بنظام التحفيظ العقاري الصادر بموجب ظهير 12/08/1913، "مجموعة من أعمال تقنية وهندسية معلنة للعموم، تضبط هوية العقار، وتعطي للحقوق المقيدة برسمه القوة القانونية تجاه الكافة، بعد القيام بالإشهار لحالته المدنية بالجريدة الرسمية لتطهيره من كل ادعاء غير مسجل بالدفتر العقاري الخاص به"[1]
وهكذا يتضح أن مسطرة التحفيظ العقاري تمر بمراحل عدة، يتعين إتباعها للحؤول دون الوقوع فيما من شأنه تعطيلها، وبالتالي عرقلة عملية التحفيظ، ومن تم عدم تأسيس الرسم العقاري، الذي هو هدف مطلب التحفيظ[2] والأصل في مسطرة التحفيظ أنها مسطرة إدارية، يباشرها المحافظ العقاري، إنما قد تتخللها مسطرة قضائية في حالة التعرض على مطلب التحفيظ، أو في حالة صدور قرار من المحافظ العقاري يرفض مطلب التحفيظ.
ولقد عالج القانون العقاري المغربي هذه المسطرة في الفصول من 9 إلى 61 من الباب الثاني، الذي قسمه إلى ست فروع، خصص الأول للمحافظة العقارية (أصبحت حاليا تسمى الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية بموجب قانون 58.00) وتناول في الفروع الخمسة إتباعا، مطلب التحفيظ- الإعلانات والتحديد ووضع الخريطة، التعرضات، التحفيظ من طرف المحافظ وفي البث في التعرضات، ثم أخيرا الرسم العقاري.
وارتباطا بموضوع بحثنا، فقد أوكل هذا القانون "للنيابة العامة " صلاحيات ومهام في مجال مسطرة التحفيظ، ويشمل هذا التدخل إجراءات التبليغ، مباشرة التعرض العادي لفائدة الأشخاص المحجورين والغائبين والمفقودين وغير الحاضرين.
ولعل تكريس هذا الدور للنيابة العامة من طرف المشرع المغربي مرده رغبته في حماية الحقوق من الضياع، وتفعيل المساطر، وتيسير إنجاز الإجراءات بعد أن كانت الغاية في عهد الحماية بسط المستعمر لنفوذه، من خلال وكيل مندوب الحكومة الذي كان سلطة تابعة له.[3]
ومن نافلة القول إن المغرب لم يعرف نظام النيابة العامة كمؤسسة قائمة الذات إلا عندما احتك بأوربا خلال مرحلة الحماية الفرنسية والإسبانية التي عايشها، وقد برزت معالمها بشكل واضح ضمن تشكيلة المحاكم الفرنسية والإسبانية، ولا سيما ما اصطلح على تسميته المحاكم العصرية.[4]
والواقع أن تدخل النيابة العامة في مسطرة التحفيظ يجد أساسه في تدخلها في الدعاوى المدنية، حيث تتدخل في هذه الأخيرة بوجه عام إما كطرف منضم أو كطرف رئيسي.[5]
بيد أن موضوع " دور النيابة العامة في حماية العقار أثناء مسطرة التحفيظ" ، لم ينل ما يستحقه من الاهتمام، بحيث تمت معالجته بنوع من الاقتضاب، وبشكل لا يفي بالغرض المطلوب، وقد انعكس هذا الوضع على الواقع العملي إذ تباين عمل النيابات العامة لدى محاكم المملكة في هذا المجال، ولا سيما على مستوى مؤسسة التعرض الاستثنائي.
لهذه الأسباب ولغيرها تنجلي للعيان أهمية الموضوع، إن على الصعيد النظري، أو التطبيقي، الأمر الذي شغفنا رغبة في محاولة البحث في موضوع "دور النيابة العامة في حماية العقار أثناء مسطرة التحفيظ العقاري، والذي ارتأينا تحديد إشكاليته المحورية في " *مدى تدخل النيابة العامة في مسطرة التحفيظ، ومدى نجاعة هذا التدخل*
هذا ما سوف نتناوله من خلال مبحثين اثنين"
-المبحث الأول: دور النيابة العامة في مسطرة التحفيظ خلال المرحلة الإدارية.
-المبحث الثاني: دور النيابة العامة في مسطرة التحفيظ خلال المرحلة القضائية.
المبحث الأول: دور النيابة العامة في المرحلة الإدارية
إن مسطرة التحفيظ مسطرة إدارية في الأصل بحيث تبتدئ بتقديم مطلب التحفيظ لدى المحافظة العقارية، وتنتهي بتأسيس المحافظ للرسم العقاري بعد استنفاذه لمختلف الإجراءات المسطرية المنصوص عليها في ظهير التحفيظ العقاري.[6] لكن قد تتخلل هذه المسطرة الإدارية مرحلة قضائية وذلك في حالة تسجيل تعرضات على مطلب التحفيظ بحيث يقوم المحافظ بإحالة ملف التعرضات على القضاء إذا تعذر عليه إجراء الصلح بين الأطراف، إلا أن هذه الحالة ليست بالوحيدة التي بمقتضاها يتدخل القضاء في مسطرة التحفيظ، بل هناك حالات يتدخل فيها رغم بقاء المسطرة إدارية، ويتعلق الأمر بتدخل جهاز النيابة العامة في مسطرة التحفيظ من خلال تدخلها في مسطرة التبليغ ودورها الهام في تنظيم عملية التحديد، وذلك من أجل حفظ الحقوق لذويه وتوفير حماية لهم ولحقهم من الضياع، وكذلك من أجل ضمان الاستقرار الاجتماعي وحفظ النظام العام وتجنب تعطيل مرفق المحافظة العقارية من قيامها بمهامها في أجواء وظروف هادئة، كما تتدخل أيضا من ناحية أخرى خلال مسطرة التحفيظ العقاري باعتبارها جهة إدارية من خلال تسييرها لمكتب المساعدة القضائية المنظم بمقتضى المرسوم الملكي لسنة 1966[7]. وبناء على ما سبق سنحاول تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، بحيث نتناول "دور النيابة العامة الحمائي في مسطرة التحفيظ" في (المطلب الأول) في حين نخصص (المطلب الثاني) لدورها في تسيير مكتب المساعدة القضائية.
المطلب الأول: دور النيابة العامة الحمائي في مسطرة التحفيظ
مكن المشرع "جهاز النيابة العامة" بصلاحية مباشرة مجموعة من الأدوار خلال مسطرة التحفيظ، والتي تجد أساسها القانوني في ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بالقانون 07-14، وكذا في القرار الوزاري المتعلق بتطبيق نظام التحفيظ العقاري الصادر بتاريخ 3 يونيو 1915، وفي قانون المسطرة المدنية.[8]
ولعل أهم هذه الأدوار دورها الإداري خلال المرحلة الإدارية لمسطرة التحفيظ العقاري والذي يتميز بكونه دور حمائي بالدرجة الأولى بحيث منح المشرع لمكتب النيابة العامة صلاحية التدخل في مسطرة التبليغ المتعلقة بمسطرة التحفيظ، فهو موطن لمن لا موطن له (الفقرة الأولى) هذا وأوكل لها مهمة حماية حقوق الأغيار، بما في ذلك تقديم التعرض على مطلب التحفيظ نيابة عن بعض الأشخاص المحددين على سبيل الحصر من قبل المشرع في ظهير التحفيظ العقاري بصيغته الجديدة وكذا تقييد حقوقهم بالسجلات العقارية (الفقرة الثانية). كما أن هذا الدور يتجسد كذلك في حماية وتنظيم عملية التحديد الهندسي التي يقوم بها المهندس المساح الطبوغرافي المنتدب خلال مسطرة التحفيظ، وهذا ما سنتحدث بصدده في الفقرة الثالثة.
الفقرة الأولى: تدخل النيابة العامة في مجال التبليغ
يعتبر التبليغ إلى الشخص من أهم الضمانات التي قد تتحقق معها علة الإجراء، إذ يكون الأمر أقرب لليقين منه للشك وبالتالي تمكينه من اتخاذ المبادرة لمناقشة مطالب ودفوعات الطرف المقابل[9]، وإجراء التبليغ هو بمثابة إعمال لمبدأ المواجهة، الذي يقوم على عدم جواز اتخاذ أي إجراء ضد شخص دون تمكينه من العلم به وإعطائه الفرصة للدفاع عن نفسه، وبهذا المعنى يصبح هذا الإجراء تطبيق من تطبيقات حق الدفاع.[10]
ويتكون هذا الإجراء من 3 عناصر جوهرية، عنصر الأشخاص المبلغ إليهم، وعنصر الآجال التي يتم فيها التبليغ، بالإضافة إلى عنصر المكان الذي يجب أن يتم فيه التبليغ.[11] ومن بين هذه الأمكنة التي يجوز التبليغ إليها نجد الموطن المختار الذي يعينه الشخص[12] وبالرجوع إلى ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07-14 نجد أن المشرع ألزم طالب التحفيظ، وكذا المتدخلين في مسطرة التحفيظ أو في مسطرة التقييد بالرسوم العقارية اختيار موطن للمخابرة (أولا) وإلا يلزمون تلقائيا بمقر النيابة العامة لدى المحكمة الابتدائية التي يقع بدائرتها العقار كموطن قانوني للمخابرة (ثانيا).
أولا: اختيار المتدخلين في مسطرة التحفيظ موطن المخابرة
بالرجوع إلى المقتضيات القانونية المنظمة للتحفيظ العقاري نجد أن المشرع ألزم طالب التحفيظ أن يقدم تصريحا للمحافظ على الأملاك العقارية يتضمن مجموعة من البيانات المتعلقة بالعقار المراد تحفيظه، ومن جملة هذه البيانات نجد تعيين عنوان أو موطن مختار في الدائرة الترابية التابعة لنفوذ المحافظة العقارية الموجود بها الملك إذا لم يكن لطالب التحفيظ محل إقامة في هذه الدائرة[13]. كما يجب على كل شخص يرغب في التدخل في مسطرة التحفيظ طبقا للفصل 84 وكل متعرض أو طالب تقييد لحق في الرسم العقاري أن يعين محلا بمركز إدارة المحافظة العقارية للمخابرة معه إذا كان محل إقامته الحقيقي خارجا عن منطقة الإدارة.[14] وعليه فإذا كان الأصل في اتخاذ الموطن المختار هو أمر اختياري ، وخاضع لإرادة الشخص فإنه استثناء ألزمه القانون بذلك في حالات خاصة، وبنصوص خاصة صريحة، كما هو الشأن في ظهير التحفيظ العقاري وفي القرار الوزيري لسنة 1915.[15]
وتتجلى أهمية محل المخابرة في مسطرة التحفيظ في تلك العناية اللازمة التي أولاها المشرع لطلبات التحفيظ والتعرض والتقييد والتتبع الدقيق لها من طرف المحافظ العقاري والتي تقتضي تدخل أصحابها كلما دعت الضرورة لذلك، حيث يتم تبليغ طالب التحفيظ كل المراسلات والإنذارات التي قد يقتضيها تنفيذ إجراءات مسطرة التحفيظ، مما يساهم في تأمين حسن سير إجراءاتها والمضي بها قدما إلى غاية تأسيس رسم عقاري نهائي وغير قابل للطعن.[16]
كما يساهم التبليغ أيضا في تحيين الرسوم العقارية ومطابقتها مع الأوضاع المادية للعقارات والمراكز القانونية ولأصحاب الحقوق العينية المترتبة عليها[17] وهذا ما جعل المشرع يولي عناية خاصة لموطن المخابرة، بحيث خصص له ثلاث فصول[18]، ثم أعاد التأكد عليه وحث على تفصيله من خلال التعليمات الصادرة عن الصدر الأعظم في شأن الضابط العقاري المتعلق بالتقييد.[19]
ثانيا: النيابة العامة كموطن لمن لا موطن له.
إذا كان المشرع من خلال الفصل 26 من القرار الوزيري قد ألزم كل متدخل في مسطرة التحفيظ سواء كان طالب التحفيظ أو متعرض بأن يحدد موطن المخابرة تابع لنفوذ المحافظة العقارية التي يوجد بها العقار موضوع مسطرة التحفيظ، فإنه اعتبر في مقابل ذلك أنه في حالة عدم تحديد هذا الموطن اعتبرت جميع المراسلات والتبليغات صحيحة، ومرتبة لكافة آثارها القانونية بمجرد وصولها إلى النيابة العامة التابع لها موقع العقار.[20] فالنيابة موطن من لا موطن له.[21]
وعلى المستوى العملي درجت الممارسة الإدارية لبعض المحافظات العقارية على توجيه مراسلات إلى النيابة العامة، من خلالها تخبر وكيل الملك بأن المحافظ على الأملاك العقارية قد راسل المعني بالأمر ولم تتمكن من ربط الاتصال به رغم شتى المحاولات، مشيرا في معرض الفقرة الأخيرة من الرسالة إلى أنه في حالة عدم متابعة المعنيين بالأمر لإجراءات مسطرة التحفيظ داخل الأجل المحدد في الرسالة، فإنه سيتم إلغاء المطلب طبقا لمقتضيات الفصل 50 من ظهير التحفيظ العقاري.[22]
لذلك وبناء على ما سبق يتبين لنا أن الواقع العملي داخل المحافظة ذهب إلى اعتبار مجرد التبليغ إلى النيابة العامة وإخبارها بتغيب وتعذر ربط الاتصال بالمعني بالأمر من أجل مواصلة إجراءات التحفيظ كاف لاتخاذ المحافظ على الأملاك العقارية القرار المناسب في شأن المطلب خاصة بعد انصرام الأجل المحدد في الرسالة دون جواب من طرف النيابة العامة، وكأن مجرد التبليغ، إلى النيابة العامة كاف لمواصلةالإجراءات المسطرية، معتقدين أن الهدف من توجيه الإنذار إلى النيابة العامة هو إشعارها وإعلامها بما سيقدم عليه المحافظ من إجراءات دون حاجة إلى قيام النيابة العامة بتبليغ الإنذار إلى المعني بالأمر[23]، متشبثين بحرفية نص الفصل "26 الذي جاء فيه " ...إن الإعلامات والتنبيهات الموجهة إليه تعد صحيحة بمجرد تسليمها لمكتب النيابة العامة".
وهو ما جعل أحد الباحثين[24] يعتبر أن التفسير الذي أعطي للفصل 26 السالف الذكر من طرف المحافظين هو تفسير خاطئ، لأن غاية المشرع من تبليغ النيابة العامة هو قيامها بما لديها من وسائل للبحث عن الشخص المعني بالرسالة المبلغة إليها وإفادة المحافظ بنتيجة البحث فإذا لم يتم العثور عليه تولت النيابة العامة الدفاع عن مصالحه وأذنت للمحافظ على الأملاك العقارية بمتابعة المسطرة وفق ما يراه مناسبا.
ويتبين أن هذا التوجه الذي سار فيه الباحث هو توجه منطقي على اعتبار أن هذا الفهم الضيق الذي أعطي للفصل 26 من طرفالمحافظين هو فهم غير سليم، خاصة عندما تم ربطه بأجل محدد[25] تحت طائلة إلغاء المطلب أو التعرض في حالة انصرام الأجل دون العثور على المعني بالأمر، خاصة إذا علمنا أن النيابة العامة وبعد توصلها بهذه الإرساليات من طرف المحافظ على الأملاك العقارية والمتعلقة بتبليغها إلى المعني بالأمر في إطار الفصل 26 محل الدراسة، فإنها تقوم بعدة إجراءات مسطرية للوصول إلى النتيجة النهائية[26] وهذه الإجراءات قد تستغرق أكثر من الآجال المحددة في المراسلة، لذلك ليس من المنطقي بعد انتهاء النيابة العامة من إجراءات البحث والوصول إلى النتيجة تفاجئ بكون المحافظ على الأملاك العقارية قد اتخذ قراره بإلغاء مطلب التحفيظ، أو إلغاء التعرض.
ثم إنه ومن جهة ثانية حتى لو افترضنا أن جواب النيابة العامة كان سلبيا بحيث لم يتم العثور عن المعني بالأمر، ففي هذه الحالة فإن النيابة العامة هي من تتولى الدفاع عن مصالح المتغيب طالما أن المشرع أعطى الصلاحية لوكيل الملك بأن يتدخل في مسطرة التحفيظ العقاري للدفاع عن حقوق الغائبين وغير الحاضرين.[27]
لذلك يمكن القول بأنه إذا كان المشرع قد جعل مقر النيابة العامة محلا للمخابرات لمن لا موطن له، فإن الهدف من هذا المقتضى هو صيانة حقوق هؤلاء الأشخاص الذين أغفلوا تعيين محلا للمخابرة من الفقدان والضياع وهو الأمر الذي لن يتحقق إذا أعطى للفصل 26 هذا التفسير الضيق وإقرانه بآجال محددة تحت طائلة إلغاء الحق المطالب به.
الفقرة الثانية: تدخل النيابة العامة لحماية حقوق الأغيار
إذا كان الأصل هو قيام كل شخص بمباشرة حقوقه والدفاع عنها بنفسه فإنه لا مانع من أن ينوب البعض عن غيره في القيام بها، ولذلك قد لا تقدم التعرضات بصفة شخصية من كل متعرض[28]، بل يبيح القانون أن تقدم التعرضات بواسطة الغير (أولا)، كما أجاز القانون كذلك تقديم طلب تقييد الحقوق لفائدة القاصرين وكذا المفقودين من قبل الغير (ثانيا).
أولا: ممارسة التعرض باسم الغير
يقصد بالتعرض ذلك الادعاء الذي يتقدم به أحد من الغير ضد طالب التحفيظ بمقتضاه ينازع المتعرض في أصل حق ملكية طالب التحفيظ أو في مدى هذا الحق أو في الحدود، أو يطالب بحق عيني مترتب له على هذا العقد وينكره عليه طالب التحفيظ الذي لم يشر في مطلبه.
والتعرض-كما هو معلوم- يجب أن يصدر من طرف شخص له صفة أو مصلحة، واتصالا بموضوع بحثنا تنص الفقرة 2 من الفصل 26 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بالقانون رقم 07-14 على أنه " يمكن التدخل في المسطرة عن طريق التعرض باسم المحجورين والغائبين والمفقودين وغير الحاضرين، وذلك من طرف الأوصياء والممثلين الشرعيين ووكيل الملك والقاضي المكلف بشؤون القاصرين والقيم على أموال الغائبين والمفقودين".
ويتضح من مقتضيات الفصل 26 السالف الذكر أن النيابة العامة تمارس التعرض لفائدة الأشخاص المحددة وهو حق خوله المشرع للنيابة العامة حفاظا على مصالح هؤلاء التي لا يستطيعون حمايتها إما لقصور سنهم أو لعدم أهليتهم القانونية أو لكونهم غائبين أو مفقودين[29]. إلا أنه وبالرجوع إلى الفقرة الأولى من الفصل 26 دائما نجد أن المشرع قد قيد تدخل الغير لممارسة التعرض ببعض الشروط ويتعلق الأمر أساسا بإثبات هويته، وكذا تبرير تدخله بالوثائق الصحيحة والبيانات المتعلقة بالمنوب كما هي محددة في الفصل 25 من ظهير التحفيظ العقاري الذي نسخ وعوض بقانون رقم 07-14.
لذلك فالتساؤل المطروح في هذا الصدد يتعلق بمدى تقييد تقديم وكيل الملك للتعرض نيابة عن أحد الأشخاص المذكورين في الفصل 26 السالف الذكر باحترام الشروط المذكورة أعلاه؟ أي هل النيابة العامة عند ممارستها للتعرض باسم الغير تخضع لنفس الشروط التي يخضع لها المتعرض أو الغير والمتعلقة بضرورة إثبات الهوية والإدلاء بالبيانات وإرفاق التعرض بالمستندات والحجج المؤيدة ومن أداء الوجيبة القضائية؟
إن التعرض الذي يقدمه وكيل الملك في الحالات المحددة في الفصل "26" المذكور سابقا، شأنه شأن أي تعرض يتطلب شروطا شكلية ومؤيدات (-أ-)،لكن السؤال المطروح بخصوص تعرض النيابة العامة عن الغير، هو مدى ممارستها لهذا التعرض وتوفير الحماية اللازمة لحقوق الأشخاص الذين أوجب المشرع التدخل في المسطرة لأجلهم؟ (-ب-).
-أ- مسطرة التعرض:
التعرض هو الوسيلة التي يبادر صاحب حق إلى ممارستها لإيقاف إجراءات التحفيظ خلال الأجل القانوني المقرر وذلك إلى أن يوضع حد للنزاع بتصالح الأطراف ذوي العلاقة أو بقرار نهائي من القضاة[30]
وحسب الفصل 24 [31] من ظهير التحفيظ " يمكن لكل شخص أن يتدخل عن طريق التعرض في أعمال التحفيظ خلال أجل شهرين يبتدئ من يوم نشر الإعلان عن انتهاء التحديد المؤقت في الجريدة الرسمية، إن لم يكن قام بذلك الإجراء من قبل..." فالمشرع في هذا الفصل فتح الباب على مصراعيه أمام كل من يرى في نفسه أنه متضرر من مطلب التحفيظ أو أن له حقا عينيا معينا عليه [32] من أجل تقديم تعرض يحمي به هذا الحق، والسبب في ذلك كما يرى أحد الفقهاء، هو منح أكبر قدر من الضمان لمن يمكن أن يكون طالب التحفيظ سببا للنيل من حقوقه.[33]
وقد حدد المشرع مجموعة من الشكليات[34] التي يجب على طالب التحفيظ احترامها حتى يتم قبول تعرضه، إذ يمكنه تقديم هذا التعرض بشكل شفهي أو كتابي أو حتى بالمراسلة، وذلك لدى الجهات المحددة له، وهي المحافظة العقارية أو المحكمة الابتدائية أو مكتب القائد أو مركز قاضي التوثيق بالإضافة إلى المهندس أثناء عملية التحديد.
ويشمل التعرض سواء قدم بشكل كتابي أو شفهي على نفس الإجراءات ونفس البيانات[35]، لكنه في الحالة الأخيرة يحرر محضرا في نظيرين بحضور المعني ويسلم أحدهما إلى المتعرض، والطلبات التي لم تقدم مباشرة للمحافظة توجه إليها فورا[36]، وذلك قصد تسجيلها في سجل التعرضات.
ويمارس التعرض مبدئيا في مواجهة طالب التحفيظ وفي حدود الحق المطلوب تحفيظه فلا يتعداه للمطالبة بحق أو بحقوق أخرى أو ينازع في حق متعرض آخر غيره[37]، كما يجب أن يكون الحق المطالب به حقا عينيا عقاريا خاضعا للتسجيل وعلى المتعرض أن يثبت هويته، وإذا كان نائبا فإن عليه أن يدلي بوثائق صحيحة تؤكد نيابته[38]، كما يجب عليه أن يعين موطنا مختارا في مقر المحافظة إذا لم يكن له موطنا فعليا[39]، وأن يوضح بيانات العقار المتعرض عليه ومجال تعرضه.
وبالإضافة إلى كل ذلك، يجب على المتعرض أن يدلي ويعضد تعرضه بالحجج والمستندات ووسائل الإثبات المقبولة قانونا[40]، إلا أن عدم تقديمه هذه المستندات لا يعني عدم قبول التعرض، ولكن يجب على المحافظ تسجيل هذا التعرض بسجل خاص معد لهذا الغرض ويوجه للمعنيين إنذارا قصد إيداع المستندات المذكورة مع تذكيرهم بمقتضيات الفصل 48 من ظهير التحفيظ الذي يعاقب على التعرضات الكيدية أو التعسفية أو المقدمة بسوء نية.[41]
من خلال كل ما سبق يطرح التساؤل حول كيفية تقديم النيابة العامة أو وكيل الملك للتعرض؟ أي هل يجب عليه احترام كل هذه الشكليات وإتباع المسطرة المحددة من قبل المشرع؟ أم أن هذه المسطرة خاصة بالأفراد العاديين ووكيل الملك غير ملزم بها ويمكنه تجاوز بعض شكلياتها؟
*الإجابة عن هذه الأسئلة في الفقرة الموالية.
-ب- التعرض الممارس من قبل النيابة العامة بين النظرية والتطبيق.
تنص الفقرة الثانية من الفصل 26 من ظهير التحفيظ على أنه " يمكن في جميع الأحوال- على شرط أن تقدم الإثباتات المنصوص عليها سابقا- التدخل في المسطرة عن طريق التعرض باسم الأشخاص المحجورين والغائبين والمفقودين والغير الحاضرين وذلك من طرف الأوصياء والممثلين الشرعيين والأقارب[42] ووكيل الدولة والقاضي ووكيل الغياب".
وبالإمعان في هذا النص يتضح أن النيابة العامة يمكنها التدخل عن طريق التعرض على مطلب التحفيظ باسم الأشخاص المحجورين والغائبين والمفقودين والغير الحاضرين. وهذا الاختصاص مخول أيضا للأوصياء والممثلين الشرعيين والأقارب وقاضي القاصرين ووكيل الغياب " ولا يخفى ما لمثل هذه الإباحة من فائدة في حماية حقوق هؤلاء جميعا من المفاجأة برسوم عقارية نهائية وغير قابلة للطعن تقضي على حقوقهم بدون رجعة".[43]
لكن تدخل الغير في ممارسة التعرض مقيد ببعض الشروط التي يجب احترامها، وهي تلك المنصوص عليها في الفقرة الأولى من الفصل 26، والمتمثلة في إثبات الهوية والإدلاء بوثائق صحيحة وبيانات متعلقة بالحالة المدنية للمنوب[44]، وفي حالة تعلق الأمر بشركاء أو الإرث يجب الإدلاء بعقود المناسخات.
ويبقى السؤال المطروح، هو هل تقديم وكيل الملك للتعرض نيابة عن أحد الأشخاص الوارد تعدادهم في الفصل 26 يوجب عليه بدوره احترام الشروط المذكورة أعلاه؟.. بصيغة أخرى هل يطلب من وكيل الملك إثبات هويته والإدلاء بالوثائق والبيانات والعقود شأنه في ذلك شأن أي متعرض آخر من الغير؟...
ذهب أحد الفقه[45] إلى أن الإدلاء بهذه البيانات واجب على المتعرض شخصيا أو على نائبه عندما يتعرض نيابة عن القاصر أو ناقص الأهلية أو الغائب ولم يفرق في ذلك بين الأب أو الوصي أو المقدم أو وكيل الملك أو وكيل الغياب فالجميع يجب أن يثبت هويته وأن يدلي بالوثائق المعززة لذلك. إلا أن هذا الرأي خالفه بعض الفقه، ذلك أن النيابة العامة تمارس التعرض لفائدة المحجورين والغائبين والغير الحاضرين حماية لحقوقهم وحفاظا على مصالحهم التي لا يستطيعون حمايتها، إما لقصور سنهم أو لعدم أهليتهم القانونية أو لكونهم غائبين أو مفقودين[46].
وانطلاقا من هذا الهدف الذي تسعى إليه، فإنه لا يمكن تصور أنها قد تعمل على الإضرار بحقوق الأشخاص الذين تقدم التعرض باسمهم، وبالتالي فإن شرط إثبات الهوية بالنسبة لوكيل الملك غير وارد، فهذا الشرط خاص بالأشخاص الذين يقدمون التعرض باسم غيرهم إذ أن ضبط هوية هؤلاء تمكن من مقارنتها مع الهوية الواردة بصك النيابة الذي بموجبه تثبت الصفة في تقديم التعرض باسم الغير، كما أنها تيسر تطبيق جزاء الفصل 48 من الظهير في حالة التعسف في ممارسة التعرض بالإضافة إلى المتابعة الجنائية في حالة ثبوت انتحال المتعرضين بطريقة تعسفية هوية من لهم الحق في النيابة في تقديم تلك التعرضات[47]، الأمر الذي لا يمكن تصور وقوعه من طرف النيابة العامة، لأنه مكلفة بحماية من تتعرض باسمهم وليس العكس.ونتيجة لذلك فإن النيابة العامة يسقط عنها شرط إثبات الهوية وكذا شرط الإدلاء بوثائق صحيحة تثبت صحتها كنيابة عامة، لأن هويتها وصفتها واحدة ومستمدة من القانون ولا يمكن انتحالها أو تزويرها على عكس باقي صفات الأطراف الأخرى[48] التي خولها المشرع حق التعرض عن الغير، حيث يمكن انتحال صفة نائب أو وصي أو وكيل بهدف تحقيق مصالح شخصية مثلا.[49]
لكن الإشكال الذي يثور بخصوص تعرض النيابة العامة عن الغير، هو الوقت الذي يقدم فيه هذا التعرض؟ وفي هذا الإطار يرى أحد الباحثين[50] أن اختصاص وكيل الملك بتقديم تعرض بالنيابة قاصر على الحالة التي يحيل فيها المحافظ على الأملاك العقارية والرهون الملف على المحكمة استنادا إلى الفصل 29 من ظهير التحفيظ العقاري.
إلا أن الأخذ بهذا الرأي يعني حسب باحث آخر[51]، ضياع حقوق المحجورين والغائبين والمفقودين وغير الحاضرين، لأن إقامة التعرض من طرف وكيل الملك-حسب الرأي السابق- يبقى رهينا بتقديم تعرضات أخرى إلى المحافظ وإحالة هذا الأخير الملف إلى المحكمة حتى ينعقد لوكيل الملك الاختصاص بقبول التعرض. وبالتالي أعتقد أن تقديم التعرض بالنيابة من طرف وكيل الملك يتم داخل الأجل العادي للتعرض وحتى خارجه، ولكن أمام المحافظ العقاري ما دام الملف معروضا بين يديه، ويختص وكيل الملك بتقديم هذا التعرض وقبوله عندما يعرض الملف على المحكمة، وهنا تجتمع له الصفتان صفة المتعرض، وصفة صاحب الاختصاص بقبول التعرض الاستثنائي.
وعموما فإن النيابة العامة عند تقديمها للتعرض نيابة عن المحجورين أو الغائبين أو المفقودين، فإنها تتبع نفس مسطرة تقديم التعرض مع بعض الفوارق البسيطة، حيث يقوم وكيل الملك أو نائبه بتحرير تعرض يكون غالبا في شكل كتابي يحال إلى السيد المحافظ يذكر فيه اسم المتعرض لفائدته وحالته القانونية، هل هو قاصر أم غائب أم مفقود، كما يحدد نوع الحق المتعرض عليه ويرفق الطلب بالبيانات المتعلقة بالحالة المدنية للمتعرض لفائدته وبالوثائق المدعمة والمثبتة للحق موضوع التعرض[52].
وبعد تقديم النيابة العامة لهذا التعرض، فإنها تخضع لجميع القواعد التي يخضع لها أي متعرض فتعد بذلك مدعية " وتتقمص شخصية المتعرض لفائدته وعليها أن تقدم كل البيانات والإثباتات التي عليهم تقديمها ولها متابعة الدعوى إلى أن يصدر بشأنها حكم نهائي".[53]
وقاعدة اعتبار المتعرض مدعيا يقع عليه عبء الإثبات استنتجها الاجتهاد القضائي واستقر عليها منذ فترة طويلة، إذ ترجع جذور هذه القاعدة إلى عشرينيات القرن الماضي عندما وضعتها محكمة الاستئناف بالرباط وأكدتها محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 21 يناير 1959[54]، وتبناها المجلس الأعلى في قرار له بتاريخ 25 يوليوز 1963[55] وقرارات أخرى لاحقة، اعتبر فيها المتعرض مدعيا وطالب التحفيظ مدعى عليه ولا تناقش حججه إلا إذا أدلى المتعرض بحجج إثبات تعرضه[56]، وهو ما سارت عليه أيضا محاكم الموضوع ومن بينها محكمة الاستئناف بالحسيمة التي جاء في حكم لها ما يلي: " وحيث من الثابت فقها وقضاء أن المتعرض في مسطرة التحفيظ يعد مدعيا يقع عليه عبء إثبات ادعاءاته ولا تناقش حجج طالب التحفيظ إلا بعد إثباته لذلك- أي المتعرض- بحجج منتجة في النزاع".[57]
وانطلاقا من هذا فإن النيابة العامة يجب عليها الإدلاء بكافة وسائل الإثبات والحجج والوثائق أثناء تعرضها وإلا تم إنذارها من قبل المحافظ قصد إيداع هذه الإثباتات وإلا تم إلغاء التعرض[58]، ولعل هذا ما يجعل- حسب أحد الممارسين-[59] النيابة العامة لا تمارس هذا الحق –التعرض عن الغير- إلا إذا توفرت على وسائل الإثبات التي ترى أنها فعالة لإثبات الحق المتعرض عليه، وهذا أمر بديهي باعتبارها جهازا يسهر على تطبيق القانون، وليس من القانون في شيء أن تمارس حق التعرض في غياب وسائل الإثبات لأن ذلك يدخل في إطار التعسف في استعمال هذا الحق.
وعموما فإن ممارسة النيابة العامة للتعرض عن الغير يبقى مجرد اختصاص نظري لا يجد سبيلا للتطبيق على أرض الواقع، ذلك أن التعرض باسم المحجورين غالبا ما تتم ممارسته من طرف الأوصياء والممثلين الشرعيين لهم، أو من طرف القاضي المكلف بشؤون القاصرين، أما التعرض باسم الغائبين والمفقودين، فإنه يتم من طرف كاتب الضبط المعين للقيام بهذه المهمة. أما بخصوص التعرض باسم غير هؤلاء من الغائبين الذين لم يحضروا من غيبتهم في وقت القيام بعملية التحفيظ وخاصة ساعة يوم التحديد، فإنه يتم من طرف أقاربهم في انتظار حضورهم إن لم يكونوا من الصنفين السابقين اتصالا.[60]أما وكيل الملك فإنه يعد آخر من يمكنه ممارسة هذا الحق وذلك متى وجد سببا وجيها يدعوه إلى ذلك كما لو رأى تقصيرا في ممارسته من طرف من سلف ذكرهم.[61] وبالتالي فإنه حتى ولو بلغ إلى علمه أن حقا من حقوق الأشخاص الذين أجاز له القانون التعرض باسمهم مهدد بمسطرة التحفيظ، فإنه غالبا ما يقتصر على إشعار قضاة القاصرين والمحاجير بضرورة سلوك المسطرة القانونية الواجبة في الموضوع.[62] وهذا الإجراء من طرف النيابة العامة هو محل انتقاد في نظري لأن المشرع منحها سلطة تقديم التعرض نيابة عن الأشخاص المذكورين في الفصل 26 نظرا لكونهم يحتاجون لحماية حقوقهم ولا يوجد من هو أقدر على توفير هذه الحماية من جهاز النيابة العامة، فاختصاصها هذا، اختصاص أصلي يجب عليها ممارسته بإيجابية وإلا ضاعت تلك الحقوق كما حصل بالفعل بالنسبة لبعض الأشخاص الغائبين الذين أهملت النيابة العامة التدخل لفائدتهم وتقديم التعرض على أحد مطالب التحفيظ المقدمة للمحافظة العقارية بوجدة.
وتتلخص وقائع النازلة[63] أنه كان هناك مطلبان للتحفيظ أحدهما تحت عدد 20565 والآخر عدد 20731، وقد كان هناك تعرض متبادل بين المطلبين ونظرا لتغيب أصحاب مطلب التحفيظ عدد 20565 مرارا عن عمليات التحديد وعدم حضورهم أو من ينوب إلى المحافظة من أجل أداء مصاريف استئناف إجراءات التحفيظ رغم مراسلتهم من طرف المحافظ والذي لم يستدل على عنوانهم، فقام بتوجيه طلب إلى وكيل الملك من أجل البحث عن المعنيين بالأمر وبعد البحث لم يتم الاستدلال على عنوانهم فقام وكيل الملك بإخبار المحافظ بنتائج البحث وعلى إثر ذلك قام هذا الأخير بإلغاء مطلب التحفيظ الأول عدد 20565[64] وقام بتأسيس الرسم العقاري بناء على المطلب الثاني عدد 20731 الذي كان عليه تعرض من طرف أصحاب المطلب الأول الملغى، وبالتالي ضياع حقوقهم في العقار مع أنه كان من الممكن تلافي ذلك لو قامت النيابة العامة بتقديم التعرض نيابة عنهم باعتبارهم غائبين.[65]
خلاصة الأمر فإن الفصل 26 من ظهير التحفيظ العقاري الذي يمنح الحق لوكيل الملك بتقديم التعرض نيابة عن المحجورين والغائبين والمفقودين والغير الحاضرين، يبقى مجرد حبر على ورق ولا يتم تفعيله، لذلك ومن وجهة نظرنا نرى إلى جانب أحد الباحثين بأن عدم تفعيل جهاز النيابة العامة لمقتضيات الفصل 26 من ظ.ت.ع أمر غير مبرر[66]، فما دام المشرع منح لها هذا الاختصاص الأصلي والرئيسي وذلك بهدف توفير حماية لهؤلاء الأشخاص الذين يعجزون عن حماية حقوقهم بأنفسهم، فإنه يجب عليها ممارسة هذا الحق ممارسة إيجابية وذلك بغية حماية المراكز القانونية لهؤلاء الأشخاص.
ثانيا: تقييد حقوق القاصرين والمحجورين
كما هو معلوم فإن كل حق عيني عقاري يكسبه الشخص على عقار محفظ يجب أن يقيد في الرسم العقاري[67] وفق مسطرة خاصة نظمها المشرع المغربي تنظيما دقيقا، وهذا التقيد يعتبر قرينة قانونية وحجة قوية يمكن الاحتجاج بها تجاه كافة الأشخاص[68] سواء فيما بين أطراف العقد[69] أو مواجهة الغير.[70]
ونظرا لعدم توفر القاصرين والمحجورين على الأهلية القانونية لمباشرة حقوقهم بأنفسهم فقد أوكل المشرع هذا الدور للنيابة العامة عندما نص الفصل 78 من ظهير التحفيظ العقاري على أن حقوق القاصرين والمحجورين تقيد بطلب من نوابهم الشرعيين أو الأوصياء عليهم وإلا فبطلب من القاضي المكلف بشؤون القاصرين أو وكيل الملك.
إذن يلاحظ من خلال صياغة الفصل المذكور أن النيابة العامة يمكن لها تقديم طلب تقييد حقوق القاصرين والمحجورين بالسجلات العقارية إلا أن هذا الدور الممنوح لجهاز النيابة العامة والذي يهدف إلى حماية الحقوق المكتسبة لهؤلاء الأشخاص إنما جاء على سبيل الاحتياط فقط، وذلك متى تقاعس نوابهم الشرعيين أو الأوصياء عليهم عن القيام بهذا الدور. والنيابة العامة عند قيامها بهذا الدور الاحتياطي الممنوح لها بصريح الفصل 78 فإنها تكون ملزمة بتقديم الوثائق المثبتة للحق المكتسب من طرف القاصر ومراعاة الشروط المتطلبة قانونا في مسطرة تقييد الحقوق بالسجلات العقارية.[71]
وإذا كان المشرع قد منح الصلاحية لجهاز النيابة العامة في طلب تقييد حقوق القاصرين والمحجورين بالسجلات العقارية، فإن هذا الحق يؤهلها للقيام بأي إجراء يؤدي إلى تحقيق هذه الغاية كطلب تقييد احتياطي للحفاظ على رتبة الحق المكتسب إذا خيف ضياعه بسبب التراخي في طلب تقييده[72].
وقد اعتبر أحد الفقه[73] أن طلب التقييد الذي يتقدم به وكيل الملك لفائدة القاصرين والمحجورين فيه جلب المنفعة لهؤلاء والصيانة لحقوقهم من الضياع الذي قد يقع عند عدم المبادرة للتقييد من طرف نوابهم الشرعيين أو الأوصياء عليهم طبقا للفصل 78 من ظهير التحفيظ العقاري. إلا أنه إذا كان المشرع قد عني بحقوق القاصرين بالسجلات العقارية من طرف النيابة العامة في حالة تقصير الأوصياء عليهم أو نوابهم الشرعيين في طلب التقييد، فإن التساؤل المطروح يتعلق بمآل حقوق القاصرين المكتسبة على عقارات في طور التحفيظ؟
بخصوص هذه الحالة نجد أحد الباحثين ذهب إلى اعتبار الفصل 78 السالف الذكر يستوجب ضمنيا الحقوق المكتسبة من طرف القاصرين على العقارات في طور التحفيظ رغم سكوت المشرع عن هذه الحالة وعدم الإشارة إليها بشكل صريح معززا رأيه بكون المشرع مادام قد منح الحق للنيابة العامة بتقديم التعرض باسم المحجورين والقاصرين وهو مجرد إدعاء فمن باب أولى أن يكون لها صلاحية حماية الحقوق المكتسبة للقاصرين على عقارات في طور التحفيظ وهي عادة ما تكون ثابتة بموجب رسوم ومستندات[74].
لذلك وبناء على ما سبق يجوز للنيابة العامة حماية هذه الحقوق عن طريق الإيداع طبقا للفصل 84 من ظهير التحفيظ العقاري[75]، أو عن طريق الحلول عملا بالفصل 83[76]، وذلك حتى لا تتعرض هذه الحقوق للتطهير من جراء قرار المحافظ[77].
الفقرة الثالثة: تدخل النيابة العامة من أجل تنظيم عملية التحديد
تعتبر عملية التحديد الطبوغرافي للعقار موضوع مطلب التحفيظ عملية تقنية بالأساس يقوم بها مهندس مساح ينتمي إلى هيئة المهندسين الطبوغرافيين، حيث ينتقل إلى عين المكان بحضور الأطراف لمعاينة العقار المراد تحديده ولأخذ المقاييس اللازمة لمعرفة حدوده ومعالمه ومشتملاته قصد وضع تصميم مدقق عن الوضعية المادية للعقار، كما أنها تعتبر عملية قانونية كذلك لأنها تمكن المحافظ من التعرف على الوضعية القانونية للعقار[78]، وتتجلى أهمية هذه العملية في كونها تساهم في حسم النزاع، لأنها تمكن المحافظ من التأكد بطريقة واضحة من جدية الأمر وقيمة المطلب أو أحقية المتعرض عليه[79]. وبالرجوع لمقتضيات الفصل 19 من ظ.ت.ع المغير والمتمم بالقانون رقم 14.07 نجد أن المشرع جعل المحافظ على الأملاك العقارية الجهة الساهرة على تسيير عملية التحديد، وينتدب لهذه الغاية مهندسا مساحا طبوغرافيا محلفا من جهاز المسح العقاري[80].
وعملية التحديد في إطار مسطرة التحفيظ العقاري تعتبر في المرحلة الأولى تحديدا مؤقتا بحيث يمكن أن تلحق معالم العقار المراد تحفيظه من تعديلات وتغييرات خلال جريان المسطرة الإدارية، كما يصبح التحديد المؤقت نهائيا إما على حالته وبدون أن يلحقه أي تغيير أو بعد إنجاز تحديد أو تحديدات تكميلية وذلك في أفق الإعلان عن انتهاء التحديد وتعيين آخر أجل لإبداء التعرضات[81].
وبالرجوع إلى الواقع العملي نجد أن عمليات التحديد التي يسيرها المهندس بعد خروجه إلى عين المكان قد تمر في ظروف آمنة وهادئة في بعض الأحيان، بحيث يقوم المهندس بعد استفساره للحاضرين في هذه العملية والمستدعون من طرف المحافظ[82] بتحرير محضر بانتهاء التحديد مشيرا فيه إلى النقط المحددة في الفصل 21 من ظهير التحفيظ العقاري المغير والمتمم بقانون 14.07، إلا أنه في مقابل هذه الحالة قد تواجه المهندس المنتدب عدة عراقيل تعطله عن القيام بمهمته، وفي هذه الحالة منح المشرع الصلاحية للنيابة العامة من أجل التدخل بهدف تنظيم هذه العملية وتوفير الظروف الملائمة للمهندس من أجل القيام بمهمته.
فبالرجوع إلى مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 20 من ظهير ت.ع نجد أن المشرع خول للمحافظ على الأملاك العقارية أو كل من له مصلحة في إنجاز عملية التحديد كطالب التحفيظ أو متعرض تقديم طلب إلى السيد وكيل الملك قصد تسخير القوة العمومية ومن تم توفير الظروف الملائمة لإجراء هذه العملية.
ويعد هذا الإجراء من أهم المستجدات التي جاء بها قانون رقم 14.07 حيث أوجب القانون على وكيل الملك تسخير القوة العمومية لتوفير الظروف الملائمة لإجراء عملية التحديد وذلك بطلب من المحافظ أو ممن له مصلحة في ذلك[83].
وغالبا ما يتم اللجوء إلى هذا الإجراء حينما يتبين للمحافظ على الأملاك العقارية بأن هناك أشخاص يعرقلون إجراء عملية التحديد لكونهم ينازعون طالب التحفيظ في مطلبه[84]، وتدعوا الضرورة في مثل هذه الحالة إلى مطالبة النيابة العامة بتسخير القوة العمومية، وذلك بعد توجيه طلب إلى وكيل الملك عملا بمقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 20 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 14.07، يلتمس منه مؤازرة المهندس المساح بالقوة العمومية من أجل استئناف عملية التحديد بعد أن تعذر عليه إجراءها بسبب عرقلتها بمنع المهندس من القيام بمهامه في التاريخ المقرر لإجرائها[85].
وبالرجوع إلى صياغة الفقرة الأولى من الفصل 20 نجدها جاءت لصالح المحافظ على الأملاك العقارية وكذا لكل من له مصلحة في طلب تسخير القوة العمومية.
وبناء عليه، فإن هذا الطلب يمكن أن يتقدم به المحافظ كلما تعذر على المهندس المساح المنتدب من قبله القيام بمهمة التحديد، كما يمكن للمعني بالأمر كذلك أن يتقدم بهذا الطلب إلى وكيل الملك ملتمسا منه تسخير القوة العمومية لفائدته قصد توفير الظروف الملائمة للمهندس الطبوغرافي لتحديد عقاره موضوع مطلب التحفيظ وذلك كلما تشكك أن عملية التحديد لن تمر بسلام.
المطلب الثاني: دور النيابة العامة في تسيير مكتب المساعدة القضائية
إضافة إلى الدور الإداري الذي تمارسه النيابة العامة في مسطرة التبليغ باعتبارها موطنا للمخابرة لمن لا موطن له في مسطرة التحفيظ العقاري، فإنها تعتبر كذلك جهة إدارية تتولى تسيير مكتب المساعدة القضائية[86]المنظم بمقتضى المرسوم الملكي لسنة 1966[87]، وباعتبار نظام المساعدة القضائية وارد في قانون التحفيظ العقاري، بحيث أن المشرع ألزم كل متعرض لم يحصل على المساعدة القضائية أداء الرسوم القضائية وحقوق المرافعة وذلك تحت طائلة إلغاء التعرض[88].
لذلك فإن جهاز النيابة العامة باعتبارها الجهة الساهرة على تسيير هذا النظام فإنها تتدخل في مرحلة التعرضات المقدمة ضد مطلب التحفيظ، إلا أن هذا التدخل في هذه الحالة يكون من نوع آخر، بحيث تتدخل باعتبارها جهة إدارية تصدر الأوامر بمنح المساعدة القضائية للمتعرضين الذين تقدموا بطلبات قصد الحصول عليها.
ومن أجل دراسة هذا الاختصاص الإداري للنيابة العامة ارتأينا تقسيمه إلى شقين، بحيث نخصص الأول للنظام القانوني للمساعدة القضائية والثاني لشكلية طلب المساعدة القضائية.
الفقرة الأولى: النظام القانوني للمساعدة القضائية
تعتبر المساعدة القضائية بمثابة تدبير أقره المشرع لمصلحة المتداعين الذين لا تمكنهم حالتهم المادية من دفع نفقات الدعوى، بحيث يستطيعون بموجبه رفع هذه الدعوى والسير بها وإتمام جميع إجراءات التحقيق فيها حتى صدور الحكم وتبليغه والطعن فيه عند الاقتضاء وتسخير محام يساعدهم في خصومتهم مجانا، دون إلزامهم بدفع الرسوم والنفقات المقررة في القانون أو من قبل المحكمة[89].
وبالرجوع إلى المرسوم الملكي لسنة 1966 باعتباره الإطار القانوني لنظام المساعدة القضائية، نجده يمنح هذا لحق لدى جميع محاكم المملكة، ولجميع الأشخاص سواء كانت طبيعية أو معنوية ما دامت غير قادرة على ممارسة حقوقها أو الدفاع عنها أمام القضاء نظرا لعدم كفاية مواردها، وذلك بشرط أن تتمتع بالشخصية المدنية والجنسية المغربية كما تطبق هذه المساعدة في كل نزاع وعلى المطالبات بالحق المدني أمام محاكم التحقيق، وإصدار الأحكام، كما تطبق خارج كل نزاع على أعمال القضاء الإداري والأعمال التحفظية.[90]
ويترأس مكتب المساعدة القضائية قاضي من قضاة النيابة العامة كما يقوم بمهام الكاتب فيها موظف في كتابة الضبط أو النيابة أو عون من النيابة العامة فيما يخص المكتب المحدث لدى محكمة النقض[91] ومنح المساعدة القضائية تمتد بحكم القانون إلى أعمال وإجراءات التنفيذ الواجب القيام بها على إثر صدور الأحكام القضائية الممنوح من أجلها إذن المساعدة ويجوز إذا لم تكن للمدعي موارد كافية منحها عن جميع أعمال وإجراءات التنفيذ الواجب إنجازها ويجب على المكتب المختص أن يحدد نوع الأعمال وإجراءات التنفيذ التي على إثرها تطلب المساعدة.[92]
الفقرة الثانية: شكلية طلب المساعدة القضائية.
بالرجوع إلى المرسوم الملكي لسنة 1966 نجده حدد مجموعة من الإجراءات التي يجب على الشخص طالب المساعدة القضائية التقيد بها من أجل حصوله على ذلك، ويتعلق الأمر أساسا بتقديمه لطلب إلى وكيل الملك في المحكمة المعروض عليها النزاع.[93]
وباعتبار المتعرض على مطلب التحفيظ بمثابة مدعي ينازع طالب التحفيظ وذلك بادعائه لحق على العقار موضوع مطلب التحفيظ فإنه يجب عليه من أجل حصوله على المساعدة القضائية أن يقدم طلبا إلى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية الواقع في دائرة نفوذها العقار موضوع مطلب التحفيظ.
ولصحة الطلب يجب على طالب المساعدة القضائية أن يدعمه بشهادة صحيحة من حيث الشكل يسلمها الباشا أو القائد تثبت عسر المعني بالأمر وتتضمن وسائل عيشه[94].
وبعد الإدلاء بالطلب وبالوثائق الضرورية المطلوبة يسجل بسجل طلبات المساعدة القضائية ثم تسلم للمعني بالأمر نسخة من الطلب عليها تأشيرة تحمل رقم التسجيل وتاريخ التسجيل وكذا طابع كتابة النيابة العامة.[95]
وبعد الانتهاء من مرحلة تسجيل الطلب يعمل وكيل الملك على إجراء تحقيق في الطلب وتلقي جميع المعلومات المفيدة المتعلقة بعسر الطالب وجوهر القضية، ويسلم الطلب إلى المكتب بعد القيام بهذه المساعي[96].
وبعد توجيه وكيل الملك الطلب إلى المكتب، يقوم هذا الأخير بالاستخبار عن سائر المعلومات الضرورية لمعرفة حالة عسر الطالب، وفي حالة كون مقر طالب المساعدة أو سكناه توجد في دائرة نفوذ المكتب فإنه يتم إشعاره من أجل المثول أمام المكتب لتقديم إيضاحاته، بل الأكثر من ذلك يمكن للمكتب أن يجري محاولة صلح بين طالب المساعدة وخصمه، وفي جميع الأحوال يمكن للمكتب أن يأمر بإجراء بحث تكميلي.[97]
وبعد الانتهاء من هذه الإجراءات يحال الملف على وكيل الملك أو من ينوب عنه قصد الاطلاع والتوقيع وتعيين تاريخ الجلسة، التي تنفذ بمكتب نائب وكيل الملك بحضور كاتب الضبط وكذا ممثل عن هيئة المحامين وممثل إدارة التسجيل.[98]
وما تجدر الإشارة إليه أنه في حالة منح النيابة العامة إذن المساعدة القضائية للمستفيد فإن مفعول هذا الإذن يمتد إلى المرحلة الاستئنافية عندما يصبح المستفيد منها مستأنفا عليه [99] إذ يحق له رفع استئناف فرعي بمقتضى نفس المقرر، دون أن يكون بحاجة إلى طلب الاستفادة من المساعدة القضائية أمام محكمة الاستئناف.[100]
وعليه، وبناء على ما سبق فما دام المتعرض على مطلب التحفيظ ألزمه المشرع أن يؤدي الرسوم القضائية وحقوق المرافعة التي يتم استخلاصها من طرف المحافظة العقارية لفائدة كتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية، فإنه تبعا لذلك يمكن لهذا المتعرض إذا لم يكن في مقدوره دفع هذه المصاريف أن يتقدم بطلب إلى وكيل الملك طبقا للشروط السالفة الذكر قصد حصوله على المساعدة القضائية. وبالتالي إعفاءه من أداء هذه المصاريف سواء خلال المرحلة الإدارية للتحفيظ أي عندما يكون ملف التعرض بين يدي المحافظ على الأملاك العقارية أو خلال المرحلة القضائيةوذلك عند إحالة الملف للمحكمة قصد الفصل في النزاع.
وفي هذه الحالة المتعلقة بإحالة ملف التعرضات على المحكمة للفصل في النزاع، فإنه قد تظهر ضرورة القيام بإجراءات بحث في عين المكان من أجل الفصل في النزاع، وهذا الإجراء المتعلق بالانتقال إلى عين المكان غالبا ما يكون بطلب من المتعرضين وذلك في حالة تقديمهم رسوما يقتضي الأمر تطبيقها على العقار، ففي هذه الحالة يقوم القاضي المقرر بتحديد مصاريف التنقل إلى عين المكان، وتعتبر هذه المصاريف بمثابة التعويضات الواجبة للقاضي وكاتب الضبط والمهندس من أجل الخروج لإجراء هذه المهمة.[101]
وإذا كان المشرع لم يحدد الطرف الملزم بإيداع هذا الرصيد حيث ترك الأمر لتقدير القاضي، فإن أحد الفقه[102] يرى بأن هذه المصاريف تقع على عاتق الطرف الذي طلب التنقل.
وعليه فإذا كان المتعرض هون الملزم بدفع مصاريف التنقل إلى عين المكان من أجل إجراء بحث حول النزاع فإن السؤال المطروح بخصوص هذه النقطة هو هل المستفيد من المساعدة القضائية يتحمل هذه المصاريف أم يعفى منها؟ وبعبارة أخرى هل تدخل صوائر الانتقال إلى عين المكان في إطار المساعدة القضائية؟
إن الإجابة على هذا التساؤل تستوجب منا الرجوع إلى الفصل 12 من المرسوم الملكي المتعلق بالمساعدة القضائية الذي جاء فيه "يعفى مؤقتا المنتفع بالمساعدة القضائية من إيداع أي مبلغ برسم الصوائر ومن دفع أي أداء. أما صوائر تنقل القضاة وكاتب الضبط وجميع أعوان الكتابة والخبراء أو المترجمين وأجور عمال الخبرة أو الترجمة وصوائر الشهود المأذون في الاستماع إلى شهادتهم من طرف القاضي المختص فتسبقها الخزينة طبقا لتعريفة الصوائر العدلية".
إذن فمن خلال محتوى هذا الفصل يتبين أن المستفيد من المساعدة القضائية معفى من دفع صوائر التنقل إلى عين المكان حيث تتكفل بدفعها الخزينة العامة سواء كان متعرضا أو طالبا للتحفيظ.[103]
المبحث الثاني: دور النيابة العامة في المرحلة القضائية
تعتبر النيابة العامة من المؤسسات العضوية للقانون الجنائي، لكنها حاضرة أيضا في القضاء المدني حيث تباشر ممهمة الدفاع عن المصالح العليا للمجتمع، وفي سيادة القانون فيه وهي تمارس عملها هذا بطريقتين، طريق الادعاء والدفاع، وطريق إبداء الرأي والتدخل. وهما الطريقتان اللتان اصطلح مشرع المسطرة المدنية عليهما بحالة الطرف الرئيسي وحالة الطرف المنضم.[104]
وقد عمل المشرع في قانون المسطرة المدنية على تحديد حالات تدخل النيابة العامة كطرف منضم، بينما لم يعمد إلى تحديد هذه الحالات عندما تكون طرفا رئيسيا، واكتفى بالإشارة إلى أنها يمكن أن تكون طرفا رئيسيا في الحالات التي ينص عليها القانون.[105]
وما يهم من تدخل النيابة العامة سواء كطرف رئيسي أو طرف منضم في موضوع هذا البحث، هو الدور الذي تلعبه من جراء تدخلها في دعاوى التحفيظ. وسنعمل من خلال هذا المبحث على استقصاء هذا الدور ومدى مساهمة النيابة العامة في حماية الملكية العقارية عن طريق تدخلها في دعاوى التحفيظ وذلك من خلال دراسة دورها كطرف منضم في هذه الدعاوى (المطلب الأول)، ثم دورها كطرف رئيسي (المطلب الثاني).
المطلب الأول: تدخل النيابة العامة كطرف منضم في دعاوى التحفيظ
إن تدخل النيابة العامة كطرف منضم في الدعاوى المدنية يكون بهدف إبداء رأيها في الدعوى والذي يكون لمصلحة القانون والعدالة لا من أجل اعتبارها تابعة لرأي الطرف المنضم إليه، فالنيابة العامة خصم شريف ولا تنحاز إلى أي طرف كان، فهي تتدخل دائما لفائدة العدالة والقانون لا غير.[106]
وعلى اعتبار دعاوى التحفيظ دعاوى مدنية فإن النيابة العامة قد تتدخل فيها كطرف منضم وذلك إما بصفة اختيارية متى رأت ضرورة ذلك (الفقرة الأولى)، وإما بصفة إلزامية متى أوجب عليها القانون التدخل (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: تدخل النيابة العامة في دعاوى التحفيظ بصفة اختيارية.
خول المشرع النيابة العامة التدخل كطرف منضم بصفة اختيارية، وحسب أحد الباحثين فإن هذا التدخل يتم متى رأت "النيابة العامة أن في ذلك تحقيقا للصالح العام أو تمكينا لها من أداء رسالتها كنائبة عن المجتمع وراعية للمصلحة العامة "[107] لا لرعاية مصلحة شخصية لطرف من الأطراف الذين يجب أن تصان حقوقهم في التقاضي صيانة كاملة عن أي تدخل كيفما كان مصدره، ولهذا فإن على النيابة العامة أن تتخذ الحذر الشديد حتى لا تتدخل إلا عندما يكون لتدخلها مبرر تمليه مصلحة العدالة وحماية القانون، لا المصلحة الشخصية للأطراف التي يجب أن تبقى بمنأى عن أي تدخل.[108]
وحسب المادة 8 من ق.م.م، تتدخل النيابة العامة كطرف منضم في الحالات التي تطلب التدخل فيها بعد اطلاعها على الملف أو عندما تحال عليها القضية تلقائيا من طرف المحكمة، وبالتالي فتدخلها الاختياري يكون عبر حالتين: الأولى أن تطالب بإحالة أي نازلة عليها مهما كان نوعها[109] ووضعيتها لتبدي وجهة نظرها وتقيم مدى مساس وضعية الملف بحقوقها من عدمه، ولا يمكن لأي جهة أن تمانع أو تعارض في إحالة الملف على النيابة العامة في حالة مطالبة هاته الأخيرة به اعتمادا على فكرة عدم اختصاصها، فاختصاص النيابة العامة استنادا لوضعيتها وباعتبارها جهازا يمثل الحق العام والمجتمع يحق لها المطالبة بأي ملف في أي مرحلة لتبدي وجهة نظرها في موضوعه أو تقرير إرجاعه في حالة التأكد من أن حقوقها لم تمس بأي وجه.[110]
والحالة الثانية التي تتدخل فيها النيابة العامة كطرف منضم بصفة اختيارية، هي عندما تبلغها المحكمة بضرورة التدخل لأن المصلحة العامة تقضي اطلاعها على القضية[111] فتحيل عليها الملف من أجل الاطلاع عليه والإدلاء بمستنتجاتها.[112]
وانطلاقا من ذلك نستنتج أن الفقه اعتبر أن أية دعوى –ومنها دعوى التحفيظ- مست في ثناياها المصلحة العامة، حق للنيابة العامة التدخل فيها من أجل حماية هذه المصلحة ووجب على المحكمة المعروضة عليها القضية تبليغ النيابة العامة من أجل تدخلها والإدلاء بمستنتجاتها في حالة عدم علمها المسبق بالقضية.
لكن أليس في هذا الرأي شيئا من اللبس، بل وتناقضا مع الفصل 9 من ق.م.م، الذي يفرض على النيابة العامة التدخل بصفة إلزامية متى بلغت بإحدى القضايا المنصوص عليها في هذا الفصل ومن بين هذه القضايا، تلك المتعلقة بالنظام العام، ولا يخفى ما لارتباط النظام العام بالمصلحة العامة.[113]
إن اعتبار الفقه[114] أن النيابة العامة يمكنها التدخل اختياريا متى رأت أن في ذلك تحقيقا للمصلحة العامة وأن المحكمة يجب عليها تبليغها بكل القضايا التي تمس هذه المصلحة قد جانب الصواب في ما أعتقد، ذلك أن الفصل 8 من ق.م.م، لم يشر مطلقا للمصلحة العامة وإنما خول للنيابة العامة التدخل كطرف منضم في الحالات التي تطلب فيها ذلك بعد اطلاعها على الملف، كما أنه خولها أيضا هذا الحق بعد إحالة الملف عليها تلقائيا من طرف المحكمة ولم يقيد هذا التدخل بأي قيد أو بما تقتضيه المصلحة العامة كما ذهب إلى ذلك الفقه. فلو وجدت المصلحة العامة لكان تدخلها إلزاميا بناء على الفصل 9 من ق.م.م، وحتى الفقرتين الرابعة والخامسة من الفصل 9 من ق.م.م لم يرد فيهما ذكر لمصطلح المصلحة العامة، حيث جاءا كما يلي "يمكن للنيابة العامة أن تطلععلى جميع القضايا التي ترى التدخل فيها ضروريا.
للمحكمة أن تأمر تلقائيا بهذا الاطلاع."
فمضمون هاتين الفقرتين واضح ولا يقيد النيابة العامة بضرورة توفر أي مصلحة من أجل التدخل وكل ما في الأمر أن النيابة العامة تتدخل كلما رأت ضرورة ذلك، وبالتالي فإن الباب يبقى مفتوحا أمامها من أجل التدخل كطرف منضم وبصفة اختيارية في أي دعوى كيفما كان نوعها ووضعها ولو لم تمس المصلحة العامة في شيء وهي تستمد هذا الحق حسب أحد الفقه[115]من منطلق أنها جهاز يمثل الحق العام والمجتمع، وتشرف على مراقبة سير إجراءات الدعوى والمحاكمة. وبالتالي فإن أي دعوى من دعاوى التحفيظ يمكن للنيابة العامة التدخل فيها بصفة اختيارية وتطلب الاطلاع على ملفها وتراقب سير الإجراءات فيها.
وعموما وبعيدا عن هذا اللبس الذي خلقه الفقه في موضوع تدخل النيابة العامة كطرف منضم بصفة اختيارية، فإن هذه الأخيرة عندما تتدخل بهذه الصفة لا تكون ملزمة بتقديم مستنتجاتها[116] في موضوع دعوى التحفيظ، وهو الأمر الذي يستنتج من نص الفقرة الأولى من الفصل 37 من ظهير التحفيظ العقاري التي تنص على أنه " عند افتتاح المناقشات يعرض القاضي المقرر القضية ويعين المسائل التي تتطلب حلا دون أن يبدي أي رأي ثم يقع الاستماع إلى الأطراف ويقدم ممثل النيابة العامة إن اقتضى الحال مستنتجاته، ثم يفصل في القضية إما في الحين وإما بعد المداولة" ويلاحظ بأن المشرع قد استعمل مصطلح "إن اقتضى الحال" وقد اعتبر بعض الفقه[117] ذلك دليلا على أن تقديم النيابة العامة لمستنتاجتها ليس إلزاميا واستند في رأيه هذا على قرار صادر عن المجلس الأعلى اعتبر فيه أن "الفصل 45 من الظهير لا يوجب على النيابة العامة أن تقدم في قضايا التحفيظ ملتمسات كتابية.[118]
كما أن النيابة العامة غير مجبرة على تقديم هذه المستنتجات سواء كانت شفوية أو كتابية عندما تحيل عليها المحكمة ملف القضية للاطلاع عليه، بل إنها غير ملزمة حتى بالتدخل في هذه الحالة لأن تصرف المحكمة هنا لا يعدو أن يكون مجرد دعوى للتدخل وليس أمرا أو تكليفا، ويبقى للنيابة العامة تقدير ما إذا كانت ترغب في التدخل أم لا؟[119]
لكن أحد الفقهاء[120] يرى أنه يستحسن من النيابة العامة عندما تتدخل بصفة اختيارية أن تبدي وجهة نظرها في القضايا التي تتدخل فيها بناء على ملتمس كتابي وذلك بدل الاعتماد على تضمين مصطلح تطبيق القانون على ظهر الملف والتأشير عليه، فتدخلها يجب أن يكون مؤثرا ومعللا تعليلا قانونيا سليما وهو ما أكده أحد الممارسين[121] بالقول بأن الواقع العملي أثبت أن النيابة العامة تدلي دائما بمستنتجاتها في النازلة وهي مستنتجات ترمي إلى إبداء وجهة نظرها في النزاع للمصلحة العامة وحماية القانون.
ومن خلال إطلاعنا على بعض قضايا التحفيظ التي تدخلت فيها النيابة العامة[122] لاحظنا أنها تستعمل نفس الملتمس الكتابي للتدخل به في كل الدعاوى المدنية تقريبا، وهذا الملتمس يصاغ على الشكل التالي: "بناء على الفصل التاسع من المسطرة المدنية.
ونظرا لما تتسم به مسطرة التقاضي من إجراءات شكلية يتعين التقيد بها تحت طائلة عدم قبول الدعاوى فإن النيابة العامة تسند النظر للمحكمة في مراقبتها والتأكد من سلامتها وذلك لتعلقها بالنظام العام.
وبناء على الدعاوى الجارية والمذكرات المتبادلة وما أرفق بها من مستندات، فإن النيابة العامة تلتمس البت في النازلة وفق ما يقتضيه القانون"[123].
فمن هذا الملتمس يتضح أن النيابة العامة تفوض للمحكمة حق مراقبة سير إجراءات الدعوى واحترام شكلياتها دون أن تدلي بأي مستنتجات حول القضية المعروضة، كما أنها اعتمدت الفصل 9 من ق.م.م لتبرير تدخلها وكان حماية النظام العام هو حجتها، ورغم أن القضية المتدخل فيها تتعلق بتعرض على مطلب تحفيظ – أي أنها دعوى تحفيظ – فإنها لم تشر إلى الفصل 37 من ظ.ت.ع الذي يعطيها حق تقديم مستنتجاتها في مثل هذه الدعاوى.
والمحكمة عندما تتوصل بهذا الملتمس تشير إلى ذلك ضمن بيانات الحكم وتستخدم نفس الصياغة تقريبا في جميع الأحكام على الشكل التالي: "بناء على مستنتجات النيابة العامة الكتابية الرامية إلى تطبيق القانون"[124]وهو ما يوحي بأن الأمر لا يعدو أكثر من كونه مجرد شكلية وأن النيابة العامة لا تدلي بأي مستنتجات ذات أثر في الدعوى قد تفيد المحكمة وتنيرها في بناء حكمها في القضية.
الفقرة الثانية: تدخل النيابة العامة في دعاوى التحفيظ بصفة إلزامية
ينص المقطع الأول من الفصل الثامن من قانون المسطرة المدنية على أن النيابة العامة تتدخل كطرف منضم في جميع القضايا التي يأمر القانون تبليغها إليها، وهذا يعني أن النيابة العامة هنا يجب عليها التدخل لأن القانون يلزمها بذلك.
والقضايا التي يأمر القانون تبليغها إلى النيابة العامة نص عليها المشرع في الفقرة الأولى من الفصل التاسع من قانون المسطرة المدنية[125]وأهمها القضايا المتعلقة بالنظام العام والدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية والهبات والوصايا لفائدة المؤسسات الخيرية وممتلكات الأحباس[126] والأراضي الجماعية والقضايا المتعلقة بفاقدي الأهلية وبصفة عامة جميع القضايا التي يكون فيها ممثل قانوني نائبا أو مؤازرا لأحد الأطراف، وأيضا القضايا التي تتعلق وتهم الأشخاص المفترض غيبتهم.هذه القضايا المحكمة ملزمة بتبليغها إلى النيابة العامة والتي تكون بدورها ملزمة أن تتدخل فيها كطرف منضم لتقديم مستنتجاتها كتابة أو شفويا[127]. ويجب أن يتم التبليغ بالطرق القانونية دون الاكتفاء بمجرد حضورها وقت صدور الحكم لاعتبارها قد بلغت، وإلا كان الحكم باطلا[128].
وبالإضافة إلى القضايا المنصوص عليها في الفصل 9 من ق.م.م، تتدخل النيابة العامة أيضا كطرف منضم بصفة إلزامية في جميع القضايا المعروضة أمام المجلس الأعلى حيث يتعين عليها حضور سائر الجلسات[129] وتقديم مستنتجاتها داخل أجل ثلاثين يوما من تاريخ تبليغها بملف القضية من طرف المستشار المقرر[130] وطبعا فإن من القضايا التي يمكن أن تعرض على أنظار المجلس الأعلى نجد منازعات التحفيظ العقاري، فهذه المناعات بدورها تتدخل فيها النيابة العامة بشكل إلزامي، وذلك لإعطاء مستنتجاتها فيها والتي تهدف من وراءها إعطاء وجهة نظر القانون في موضوع النازلة شأنها شأن أي نازلة مدنية أخرى.
وتدخل النيابة العامة أمام المجلس الأعلى إجباري ويترتب عن تخلفها في القيام بدورها هذا بطلان القرار ويكون لمن يعنيه الأمر حق تقديم طلب إعادة النظر فيه أمام المجلس الأعلى[131].
لكن السؤال المطروح هو هل تدخل النيابة العامة في دعاوى التحفيظ أمام محاكم الموضوع إجباري بدوره ويترتب بطلان الحكم إذا تخلفت النيابة العامة عن التدخل أو تقديم مستنتجاتها؟
كما سبقت الإشارة إلى ذلك فإن الفصل 37 من ظهير التحفيظ استخدم عبارة "إن اقتضى الحال" فإن النيابة العامة تقدم مستنتجاتها، وهو ما دفع بعض الفقه[132] إلى القول بأن ذلك ليس إلزاميا وأن المشرع خيرها في ذلك.
والفصل 42 من الظهير بدوره لم يوجب تبليغ النيابة العامة عندما تكون الدعوى معروضة أمام محكمة الاستئناف ولا حتى تقديم مستنتجاتها حسب ما يفهم من الفصل 45 من نفس الظهير وهو ما أكده المجلس الأعلى في أحد قراراته عندما قرر بأن الفصل 45 لا يوجب على النيابة العامة أن تقدم في قضايا التحفيظ ملتمسات كتابية وأن الفصل 42 لا يوجب تبليغ الملف للنيابة العامة[133].
لكن بقراءة متأنية لهذه الفصول وخاصة الفصل 37 يمكن القول بأن المشرع يحيل على النصوص القانونية التي توجب تدخل النيابة العامة، فاستعماله لعبارة "إن اقتضى الحال" في اعتقادنا يقصد به إذا أوجب القانون ذلك في حالات معينة، وكما هو معلوم فالفصل 9 من ق.م.م يوجب تبليغ النيابة العامة بمجموعة من الدعاوى التي تم تحديدها، وأن تقدم فيها مستنتجاتها وإلا كان الحكم باطلا، وبالتالي فإنه متى وجد في دعوى تحفيظ عقاري أحد الأطراف المنصوص عليهم في الفصل التاسع، وجب تبليغ النيابة العامة من أجل تدخلها وتقديم مستنتجاتها. وقد طبق المجلس الأعلى مقتضيات هذا الفصل في دعاوى التحفيظ العقاري وخاصة إذا كان أحد أطراف النزاع قاصرا[134] بل إنه تراجع مؤخرا عن اجتهاده السابق المتمثل في كون الفصل 45 لا يوجب على النيابة العام تقديم مستنتجاتها وقرر في قرارات حديثة أن "عدم الإشارة في الحكم إلى إيداع مستنتجات النيابة العامة يشكل خرقا لقاعدة مسطرية يوجب نقضه.
بمقتضى الفصل 45 من ظ.ت.ع فإن ممثل النيابة العامة يقدم استنتاجاته"[135].
"المطلوب في قرار محكمة الاستئناف الإشارة إلى سماع النيابة العامة في مستنتجاتها"[136].
"في قضايا التحفيظ العقاري يجب إحالة الملف على النيابة العامة لتقديم مستنتجاتها، تحت طائلة خرق القانون الفصل 45 من ظهير 12/8/1913".[137]
وعموما تبرز صور تدخل النيابة العامة كطرف منضم بصفة إلزامية في دعاوى التحفيظ العقاري، عندما يكون أحد أطراف النزاع[138] إما قاصرا أو فاقدا للأهلية أو غائبا ويكون ممثلا في الدعوى بواسطة ممثل قانوني أو نائب عنه[139] فعلى المحكمة هنا تبليغ النيابة العامة حتى تتدخل وتراقب احترام شروط النيابة والتمثيل القانوني[140] وكذا حماية حقوق القاصر أو فاقد الأهلية أو الغائب في حالة تقصير الممثل القانوني أو النائب له في توفير هذه الحماية وذلك عن طريق تقديم مستنتجاتها حول النزاع، وفي هذا الصدد قرر المجلس الأعلى أنه " في الحالة التي يكون فيها أحد أطراف الدعوى قاصرا يمثله نائبه القانوني فإنه يجب أن يبلغ ملف القضية إلى النيابة العامة ويشار في الحكم إلى إيداع مستنتجاتها أو تلاوتها بالجلسة وإلا اعتبر الحكم باطلا[141]، وفي قرار آخر قرر أنه " حيث يعاب على المحكمة خرقها للفصل 9 من ق.م.م بعدم تبليغ الدعوى إلى النيابة العامة، مع أن القضية تتعلق بفاقدي الأهلية.
لكن حيث أن فاقدي الأهلية المعنيين بالأمر لهم وحدهم الصفة القانونية والمصلحة لإثارة هذه الوسيلة إذ أن الإجراء المشار إليه في الفصل التاسع المذكور قرره المشرع لفائدتهم".[142]
وذهب في قرار ثالث إلى أنه " يكون تبليغ النيابة العامة وجوبا في الحالة التي تفترض فيها غيبة الشخص بسبب انقطاع أخباره طبقا للفصل 263 من ق.م.م...".[143]
وتعليقا على هذه القرارات يمكن القول أن المجلس الأعلى كرس القاعدة القانونية المنصوص عليها في الفقرة الأخيرة من الفصل 9 من ق.م.م التي تنص على أنه يجب أن " يشار في الحكم إلى إيداع مستنتجات النيابة أو تلاوتها بالجلسة وإلا كان باطلا"، لكن ينبغي الإشارة إلى أن المجلس الأعلى قرر قاعدة في غاية الأهمية، وتتمثل في أن الحكم لا يمكن إبطاله إذا كان الملف لم يبلغ إلى النيابة العامة ولم تدل بمستنتجاتها إلا إذا تضرر من جراء ذلك الطرف الضعيف (القاصر، أو فاقد الأهلية، أو الغائب)، أما إذا تحققت الحماية لهذا الطرف وتم الحفاظ على مصالحه، وذلك بالحكم له، فإن الحكم يبقى صحيحا ولا يقدحه عدم إحالة الملف إلى النيابة العامة ما دامت غاية المشرع قد تحققت[144]. والقول بهذا يجعل خصم القاصر في منأى عن الاستفادة من مقتضيات الفصل التاسع، ويمنعه من الدفع ببطلان الحكم في حالة الإخلال لأنه عديم المصلحة والضرر.[145]
هذا الاجتهاد القضائي في نظر أحد الفقهاء[146]، يبقى مردودا لعدة أسباب من أهمها أن الاجتهاد الوارد من المجلس الأعلى يتعلق فقط بالدعاوى المتعلقة بالقاصرين مع العلم أن الفصل التاسع فرض التدخل في قضايا أخرى، وتدخل النيابة العامة فيها لا يتصور فيه مراعاة مصلحة أحد الأطراف، فكان لكل طرف تضرر من الحكم الصادر بدونه أن يتمسك بالبطلان، فالباطل يولد ميتا لا وجود له، أضف إلى ذلك أن تدخل النيابة العامة في قضايا الفصل التاسع ليس تدخلا لفائدة أحد أطراف الدعوى، وإنما الدفاع عن القانون والعدالة، ولهذا فإن عدم قيامها بالواجب يترتب عليه البطلان.
وتبرز أيضا صور أخرى لتدخل النيابة العامة بصفة إلزامية في دعاوى التحفيظ كالقضايا التي تهم الأشخاص المعنوية كالشركات التي ينوب عنها ممثل قانوني، وكذلك الأمر بالنسبة لكل شخص اعتباري كالجمعيات والهيآت المهنية والنقابية والسياسيةوكذلك قضايا الجماعات بالنسبة لأراضي الجماعات[147] التي ينوب عنها وصيها وزير الداخلية، وأيضا القضايا التي تكون الدولة[148] أو المؤسسات العمومية طرفا فيها .[149]فهذه الأطراف يمكن أن تكون إما مدعية أو مدعى عليها في إحدى دعاوى التحفيظ وعلى النيابة العامة أن تتدخل في هذه الدعاوى وتدلي بمستنتجاتها حماية للقانون وإحقاقا للعدالة ومن ثم حماية الملكية العقارية.